هدى الحسيني

أحداث وتطورات متلاحقة على جبهة الشرق الأوسط المستعرة. قبل بضعة أشهر، كان الرأي العام التقليدي أن الظروف كلها تعمل لصالح إيران، وكانت إيران تضاعف نفوذها من خلال مشاركتها المباشرة وغير المباشرة في أزمات المنطقة، مدعومة بتخفيف العقوبات الدولية من دون أي شروط «مسلكية» عليها. لكن الصورة اليوم لم تعد بذلك الوضوح، مع الاتجاهات الإقليمية الطارئة التي تشمل روسيا والإدارة الجديدة في واشنطن ومواقف عربية جريئة.


الجغرافيا السياسية في المنطقة تتحرك بسرعة. حصل تعاون حول سوريا بين روسيا وتركيا، واجتمع جنرالات أميركيون وروس وأتراك في جنوب تركيا لتجنب صدام عسكري أثناء مواجهة «داعش»، ثم تصاعد نجم حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، وتردد أن قوات أميركية في العراق بدأت بنشر نقاط استطلاع على جزء واسع من الحدود العراقية - الإيرانية، وانطلقت أصوات عراقية تهتف: «إيران برا برا»، لذلك يمكن ملاحظة أن إيران تفقد الأرض، ولم تعد قادرة على وضع أو عرقلة جداول الأعمال، كأقرانها أو منافسيها الذين يعملون أيضاً لحماية مصالحهم الأساسية. هناك من قال إنه كان لإيران دور في القصف الكيماوي في سوريا، وإن أكثر من 20 إيرانياً قتلوا في القصف الأميركي على قاعدة «الشعيرات» السورية.
تشعر إيران بالقلق من الموقف الروسي، حيث انتقلت الشراكة بينهما من مستوى التحالف إلى حالة أقل استقراراً. عندما تدخلت روسيا عام 2015 في سوريا، كانت واضحة برسالتها؛ إن دعم إيران لنظام بشار الأسد لم يحقق أهدافه. ثم تحولت موسكو إلى أنقرة، باعتبارها أكثر فائدة، لتعود وتمسك وحدها بزمام الأمور، بعدما تأكدت أن الأتراك ليس لديهم ما يكفي من النفوذ على القوات السورية المناهضة للأسد، ثم جاءت الضربة الكيماوية، ولحقتها الغارة الأميركية.
لاحظت إيران خلال هذه الفترة تناقص قيمة التعاون الخاص بينها وبين روسيا، فانعكس ذلك على استراتيجيتها الخاصة بسوريا، فتوجهت إلى قطر، لتشرفا معاً على صفقة تبادل أهالي كفريا والفوعة (شمال إدلب) بأهالي الزبداني ومضايا (شمال غربي دمشق).
هناك نقطتان بارزتان في هذا «التهجير» المؤلم: روسيا تريد سوريا غير مقسمة ودولة علمانية، وهي استثمرت كثيراً في سوريا، وتريد أن تحقق هذا الهدف بين أهداف أخرى. فردت إيران بأنها تستمد قوتها من خطوط إمداداتها؛ هي تريد إضافة إلى الخطوط الجوية، تأمين خطوط برية من حدودها حتى المتوسط؛ إنها حاجة استراتيجية لإيصال السلاح إلى «حزب الله» في لبنان. من هنا، حمايتها لنظام بشار الأسد، وإسراعها والحزب عام 2011 إلى دعم النظام الذي كان مهدداً بالسقوط. وحسب التقارير، فإن من أهدافها توزيع خطوط إمدادات الطاقة، ولديها خطط لبناء خط أنابيب يمتد من الشرق إلى الغرب عبر العراق إلى الساحل السوري. ومن هنا، أتت خطة التهجير الأخيرة التي ستغير وجه سوريا.
من جهة أخرى، تراقب إيران بحذر تحرك الإدارة الأميركية الجديدة، فالرئيس دونالد ترمب، كما يبدو، مزمع على تنفيذ تعهداته الانتخابية، بأن يكون أكثر صرامة تجاه إيران من إدارة أوباما.
مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، مايك بومبيو، قال يوم الخميس الماضي، في تصريحات لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن غارة الصواريخ على القاعدة السورية هي رسالة إلى إيران، بأن بلاده على استعداد للجوء إلى القوة لحماية المصالح الأميركية.
ربط بومبيو صواريخ «توماهوك» التي أطلقت على قاعدة جوية في سوريا، منها أقلعت الطائرات التي تحمل أسلحة كيماوية، بامتثال إيران للاتفاق الدولي النووي. قال إن وكالته تراقب عن كثب التزام إيران بالاتفاق، بما في ذلك المنشآت النووية المعلنة وغير المعلنة. وأضاف: «يجب أن نضع في اعتبارنا ما حصل في سوريا، وأن نعود ونقرأ الاتفاق، لا سيما عندما يتحدث عن المنشآت المعلنة والمرافق غير المعلنة، ومدى وصول مدققي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى كل من هاتين المجموعتين المتميزتين؛ هذا قد يظهر مستوى التأكد الذي نأمل أن نقدمه إلى القائد العام»، وأوضح: «ما أعنيه أن الضربة السورية كانت عملية صنع قرار، حاسمة ومدروسة ومبنية حقاً على فهم واقعي للأهمية الاستراتيجية للأشياء التي تواجهها أمتنا اليوم».
قال بومبيو عن الأسد: كان هناك شخص انتهك حظر استعمال الأسلحة الكيماوية، وهذا ليس مهماً. لذلك أعتقد أنه يجب على الإيرانيين أن يأخذوا علماً بأن هذه الإدارة مستعدة للإقدام على أنشطة مختلفة عما كانت تفعله أميركا خلال السنوات القليلة الماضية.
وتعمل وكالة «سي آي إيه» على متابعة ما إذا كانت إيران تنتهك الاتفاق من خلال أنشطة نووية سرية. وأضاف: «الاتفاق لم يأتِ بإيران «حميدة»، فهي ما زالت دولة ترعى الإرهاب «فيما يتعلق بالإيرانيين، ما زالوا في المسيرة نفسها، منها زيادة القدرة على إيصال منظومات صواريخ متجهة إلى إسرائيل عبر «حزب الله»، وزادوا نشاطهم في الميليشيات الشيعية في الموصل، إضافة إلى دعمهم للحوثيين في اليمن لإطلاق الصواريخ ضد السعودية. وأضاف: إن قائمة التجاوزات الإيرانية ازدادت بشكل كبير منذ التوقيع على الاتفاق النووي، وإيران تدعم الهلال الشيعي في الشرق الأوسط، وهذا ليس مناسباً للمصالح الأميركية.
من جهته، كان قائد القيادة المركزية، الجنرال جوزيف فوتيل، قد صنف إيران في المرتبة الخامسة بين أكبر 5 تهديدات في منطقة الشرق الأوسط، وقدم في التاسع من هذا الشهر بعض التفاصيل حول استراتيجية الاحتواء الأميركية: «يجب أن نشغلهم بفعالية أكبر في (المنطقة الرمادية)، من خلال وسائل تشمل وضع ردع قوي، وبناء قدرات الدول الشريكة. ويجب أن تدرك إيران أنه ستكون هناك عواقب وخيمة، إذا ما قررت مواصلة أنشطتها الخبيثة المصممة لإثارة الاضطرابات في المنطقة». وكان لافتاً دعم الجنرال فوتيل «لاتصالات مباشرة مع القيادة الإيرانية، لتحسين الشفافية وتقليص احتمالات سوء التقدير».
في الوقت نفسه، استخدم ترمب لقاءاته مع قادة عرب وإسرائيليين لتأكيد عزمه على تشديد التدابير الرامية لاحتواء إيران، والضغط عليها «وذلك بالاشتراك مع الأصدقاء الإقليميين». أخيراً، أقدمت إدارة ترمب على اتخاذ عقوبات اقتصادية جديدة ضد كبار المسؤولين الإيرانيين، ونظام السجون هناك، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان الواسعة النطاق، واستهدفت العقوبات سهراب سليماني، المسؤول عن سجن إيفين، السيئ السمعة، وهو شقيق قاسم سليماني الجنرال المسؤول عن تشغيل الأنشطة الإيرانية الإرهابية في سوريا والعراق واليمن والبحرين.
ليس من قبيل المصادفة أن سهراب سليماني هو شقيق قاسم سليماني، فالأول أدار سجناً اشتهر بعمليات الاستجواب التعسفية والقسرية، وإساءة معاملة السجناء، ونقل كثيرين منهم مباشرة إلى القبور، وإعطاء أهاليهم لاحقاً ورقة عليها رقم القبر. والثاني غني عن التعريف؛ هو لم يحسم حرباً، إنما ما زال يواصل الحرب العراقية - الإيرانية التي خسرتها إيران، عبر عمليات تعتمد على ميليشيات أقدمت على القتل والتدمير والتهجير.
هذه العقوبات الجديدة تعتمدها إدارة ترمب، في ظل المراجعة الحالية الواسعة النطاق لكل الأمور المتعلقة بالاتفاق النووي. وكان قد لوحظ زيادة في انتهاك حقوق الإنسان، في ظل الرئيس حسن روحاني، المنتمي إلى الجناح الإصلاحي. العقوبات الجديدة لا تتعارض مع الالتزامات الأميركية بموجب الاتفاق النووي، ولا يتم التعامل معها كجزء من ذلك الاتفاق.
إن التحولات في ديناميكية المنطقة، التي تشمل روسيا وأميركا، تضع إيران في موقف الدفاع. روسيا بعد القصف الكيماوي، كثفت من اتصالاتها مع السعودية، وسيزور وزير الخارجية السعودي عادل الجبير موسكو في 26 من الشهر الحالي. أما الولايات المتحدة الأميركية، فإنها تتعلم بالفعل أن تعزيز العمليات العسكرية في اليمن وسوريا، من دون خطة للعبة سياسية مهيمنة، لا تجعل الإدارة الجديدة تبدو في موقع جيد. وفي رسالة إنذار إلى كوريا الشمالية، قال مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي: إن زمن «استراتيجية الصبر» ولى. وكما كانت «توماهوك» رسالة إلى إيران، كذلك تشمل تصريحات بنس إيران.. .