عبدالله بن بخيت

أفكر هذه الأيام في زيارة كوريا الشمالية.. استغرقني التفكير كثيرا. كنت أظن أن دخول تلك البلاد الغامضة صعب أو قريب من المستحيل.. بحثت في النت.. لا يستغرق أمر الفيزا أكثر من شهرين. قرأت أن الحكومة هناك بصدد رفع عدد السياح إلى مليون نسمه مع بلوغ 2020. لكن أمر التجول في البلاد لن يتغير. يخصص لك سائح مرافقان. إذا تعب الأول استلمك الآخر. الشيء الجديد أنهم رفعوا عدد المدن التي يمكن أن يزورها الأجانب.

بلد مغلق.. يصرف معظم موارده على بناء الصواريخ والقنابل.. بلغ عديد جيشه مليوني رجل وخمسة ملايين ينتظرون أن يحمى الوطيس. كل نشاطات البلد تتجه إلى النصر والتمكين. تدور الأمة حول الحرب المتوقعة، الأعداء يتربصون بهم، يتآمرون عليهم، يجب أن نكون مرهوبي الجانب، كل ما سوانا أعداء لنا، أميركا واليابان وكوريا الجنوبية وحتى الصين الشيوعية التي شاب عقيدتها كثير من الشوائب العقدية. ناهيك عن المرتدين في روسيا وأوروبا الشرقية وفيتنام وبقية الأمم الغارقة في الجاهلية.. صراعهم صراع الحق الذي يمثلونه والباطل الذي يمثله الآخرون.

كل العالم يسير في طريق الخطأ.. وهم وحدهم السائرون على الطريق المستقيم والحق الأبلج. أزالت العزلة والايديولوجيا عيونهم. وضعت مكانها شعارات العزة والكرامة والنصر والتمكين. لا يرون ولا يريدون أن يروا الفرق بين حياتهم وحياة اليابانيين أو حياة أبناء عمومتهم الكوريين، ولا يقرون التطور المستمر الذي تعيشه الصين.. لا يرون سوى الأمجاد المدوية التي صنعوها بآلاتهم الإعلامية ودعاتهم.

زيارة دولة كهذه ضرورية لكل من يريد أن يعرف مصائر الأمم التي تضع الأيديولوجيا مكان الحياة وتستبدل السلام بطبول الحرب وتضخم الذات وتستعلي بصحيحها على صحيح الآخرين.

لا تقوم الايديولوجيات على برامج.. لا يتحدث دعاتها عن الإسكان، عن المستشفيات، عن الطرق.. ما نفع الحياة المادية؟ ما الذي استفاده الغرب غير الضياع والتفكك الأسري؟

تضرب الأبواق الأيديولوجية بعيدا عن مطالب الناس، عن حياة العائلة، عن حياة الأطفال. تدوي أصواتها في مكان لم يوجد ولن يوجد أبدا. عالم يسكن في مجرة أخرى تقوم الحياة فيه على خليط هائل من الأعمدة الأسطورية كالعزة والكرامة والوحدة والرفعة والنصر والتمكين والمؤامرة والأعداء والتربص.. الحديث عن الحياة اليومية مؤجل.. الفنون والآداب والمسرح والأوبرا مطالب برجوازية أو جاهلية إذا أردت.

أعداؤنا يحيكون المؤامرات، نخشى أن يقضوا علينا بين عشية وضحاها، أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم.. أين الشباب وأين العدو؟ لم تبق هذه النغمة سوى في كوريا الشمالية والرقة والموصل والمنابر التي يملأ ضجيجها سماوات العالم الإسلامي.