فاطمة المحسن

شهادات النساء الإيزيديات الهاربات من «داعش» التي سجلتها الشاعرة العراقية المقيمة في أميركا دنيا ميخائيل ضمن كتابها «في سوق السبايا»، ستبقى وثائق على مرحلة وعصر متخم بالعنف، حيث يتعدى الراهن العادي ليقيم في مواقيت تاريخية متداخلة. ولعل تلك الشهادات تدلل على ما لمجتمعهن الصغير من تحضّر، فهن جابهن الخوف والعار بالشجاعة والعلنية، ليذهب عدد منهن، مثل ناديا مراد بعيداً في فضح هذا التنظيم. دنيا ميخائيل سجلت أصواتهن في مبادرة تخطت التضامن عبر القصيدة، إلى تدوين ما حدث عند مربع لا يبعد عن بلدتها، تلكيف، في الموصل سوى بضعة أمتار.

لعل قصص العنف الغرائبية التي ارتكبها هذا التنظيم تثير الكثير من الأسئلة، لكن المدى الذي بلغه في سبي النساء فاق كل سؤال. 
كان هذا «السبي» الاكتمال الأنسب للتعبير عن مفهوم العبودية، لا بإرجاعه الى النظم العتيقة، بل بربطه بما هو عليه الحاضر القريب. ففكرة «داعش» بعنفها الاستعراضي الذي لا يبقي ولا يذر، ولدت بين يدي البعث السوري والعراقي، في تضامن يحدث أول مرة في حياة البعث على الضفتين. 
ضباط واستخبارات الجانبين استطاعوا أن يقيموا على حدود البلدين، دولتهما الوليدة بالسيف والإيمان. لم يتعبوا أنفسهم كثيراً، فهذه الفكرة كانت كامنة في أقبية معتقلاتهم، فقط اخرجوها إلى ضوء الصحارى والبراري. لكن الوليد سرعان ما اكتمل ليذبح كل من اعترض طريقه بمن فيهم الآباء الشرعيون.

والحق أن فتيان «داعش» الشبقين إلى حور العين، يملكون الشبق ذاته إلى الاستعراض والإعلان عن بضاعتهم، تلك الخصال التي نشأت وتطورت مظاهرها في حاضنات الرأسمال العالمي العابر للقارات. فقدمت جماعة «داعش» عروض القتل والحرق والسبي على الشاشات، باحترافية عالية. مع أنها بدت كما لو كانت في معرض الاحتجاج على الغرب وحضارته، لكنها نافست عنفه الظاهر والخفي في السينما وفي وسائل التواصل الاجتماعي كما في السجون والشوارع الخلفية للمدن الأميركية: مخدرات ودعارة وقتل وحشي وخطف واغتصاب، تلك الثيمات التي أمعن بتصويرها مخرج هوليوود الأشهر كوينتن ترنتينو.

في الضفة الأخرى من العالم العربي، وبينها تونس والمغرب وليبيا، تجسّد العنف الجنسي على صورة مختلفة. وتقول المراسلة الحربية للقناة الفرنسية إن جهاد النكاح الذي دعت إليه «مجاهدات» «داعش» التونسيات، كان اعتمد على شبكات الدعارة في المغرب الكبير، ولكن هذا لم يمنع الكثير من «المتحررات» خارج تلك الشبكات، من الالتحاق بالتنظيم في سرت الليبية كمحظيات وموجهات وقناصات ومصورات. وهكذا وجد الامتهان الجسدي وسبي النساء شرعيته في أفعال النسوة أنفسهن.

بيد أن هذا التصور لا يكفي لتفسير ظاهرة مثل ظاهرة السبي، فليس عبثاً أن تقول الإيزيدية ناديا مراد التي فرت من براثنهم: «ليس في مقدور أحد القضاء عليهم سوى المسلمين أنفسهم». تعبير دقيق لفتاة بالكاد تلفظ العربية، فـ «داعش» ولد من فكرة الأكثرية المسلمة، بعد أن بارت فكرة الأمة العربية، وعشية تقدم ظاهرة أخرى منافسة هي «الثورات العربية» التي بدأت بالتطاول على المجتمعات الأبوية التي حكمتها الاستخبارات، فتنوعت موارد هذا التنظيم المالية واللوجستية من الخليج إلى المحيط: مشايخ ومؤسسات إسلامية ومليونيرية وإعلام عقائدي، كلهم نشطوا تحت أنظار حكوماتهم وصمتها.

«داعش» وسواه من الميليشيات، وبمختلف تلاوينها الطائفية والعقائدية، تؤدي مهمة واحدة، وهي كيفية الوقوف بوجه الطابع المديني المتحضر لما أراده الشباب من ديموقراطية وانفتاح، ولكنها قبل هذا وذاك، كانت تمثل التوق المجتمعي إلى العبودية، التوق الى العودة إلى الدولة البوليسية التي حكمت بالحديد والنار. فالثورات بطابعها المسالم، كانت في الواقع لا تمثل الأكثرية، فقد كانت معلّقة في هواء خفيف، مثل بالون سرعان ما انفجر بوجه أصحابه عنفاً وتدميراً.

أتى الرجال الجوف وفق تعبير إليوت الشعري من وادينا: «وادي النجوم المحتضرة / الوادي الأجوف / الفك المهشم لممالكنا المفقودة». كانوا هناك يرتكبون مجازرهم ويؤدون صلاتهم قبل اغتصاب جواريهم، كما لو كانوا ممثلين محترفين، وإلا من أين نبع الشيشاني الذي يتكلم العربية بفصاحة الجامع، ليتعامل مع النساء الإيزيديات بهذه الوحشية. كانت جدته سافرة قبل والدته على عهد الشيوعيين، فكيف حصل الذي حصل له؟

تقول الفتاة في كتاب دنيا ميخائيل عن تجربة هروبها من سبيها الأخير، بعد بيعها وتبادلها وأطفالها، بين الشيشاني والأميركي والسعودي والتونسي والعراقي: «قال انتم، إذاً، من الكفّار. حين لفظ كلمة «الكفّار» ارتعشت خوفاً، وتوسلت به أن يوصلنا، لكنه قال إنه سيعيدنا إلى المجاهدين. اتصلت بأخي وأخبرته، فطلب أن يتحدث مع السائق، لم تفد توسلات أخي ولكن، وافق أخيراً أن يوصلنا مقابل ستة آلاف دولار بعد أن كان في البداية قد حدد أجرته بخمسين دولاراً». 

هذا الحديث في منتصف الطريق للهاربات من «داعش»، فالسائق لم يكن داعشياً، ولكنه أيضاً يهتم بالتجارة وممارسة الابتزاز باسم الدين. لنلاحظ ما استخدم من كلمات «مجاهدين»... «كفّار»، فقد كانت تلك مفاتيح سوق الرقيق الذي تجاوز التنظيم إلى جغرافيا أبعد منه. فميليشيات «داعش» كان جديدها هو العلنية والتعميم، لأن الميليشيات الأخرى وبمختلف تلاوينها العقائدية، تمارس سراً عمليات القتل الطائفي والاختطاف والاغتصاب والابتزاز وتدوير الأموال وتجارة المخدرات.

لم تخلق الاستخبارات العربية والأميركية والإسرائيلية وحدها «داعش»، فهذا تحصيل حاصل، لأن نموذج «داعش» كان قد ترعرع بين ظهرانينا، من فكرة الخوف من الحرية، وفق تعبير آريك فروم وهو يصف أسباب ظهور الهيمنة النازية والفاشية. الخوف من الحرية يتخذ في لا وعي الشعوب المقبلة على تحول جديد، صوراً شتى، منها الشعور بضعفها لأنها لا تملك سنداً يحميها من الغير الذي يريد التنكيل بها، فكل دعوات الحكومات والعقائد الشمولية تقوم على التلويح بالأخطار من الأعداء، أعداء الوطن، القومية، العقيدة، الطبقة، المذهب.

مَرَّ نموذج الفردانية في الحضارة الحديثة بصراع طويل كي يبلغ الإنسان الوعي بذاته المستقلة من دون حمولة الشعور بالخطيئة، أي فقدان الفردوس الذي خرج منه بسبب خطيئته، ولكنه لم يلبث أن استبدله بقيود خلقت المقولات الشمولية. ونحن الآن في برزخ هذا المأزق الذي أُشبع دراسة في الغرب، حيث لا يستطيع الفرد النظر إلى التاريخ والعالم سوى من خلال مقولة عامة، فهو لا يُدرك نفسه إلاّ باعتباره منتسباً إلى طائفة أو قومية أو قبيلة أو حزب أو عائلة، كي يجد التبرير لأفعال العنف داخل تلك الكيانات باعتبارها دفاعاً عن النفس.

«داعش» وكل الميليشيات «الطهرانية»، هي احتجاج على تمرد الفرد كي يكون هو، بإرجاعه إلى عبودية غير قابلة للدحض. فالقتل المجاني والاغتصاب تبرره مقولة الغزو التي تبيح دم المختلف وأملاكه وأعراضه. وما الصراع في العالم الإسلامي بين السنة والشيعة إلاّ مرض من أمراض مجتمع العبودية الذي تُزرع فيه الكراهية بين جدران البيت الواحد. يطيب للمدافعين عن الميليشيات بمختلف أشكالها، الموازنة بين عنفهم وعنف الأميركيين والإسرائيليين مع ان تلك الميليشيات لم تدخل يوماً في حرب مع هؤلاء، بل مع العزّل والضعفاء من النساء والأطفال والرجال الباحثين عن لقمة عيشهم. ولعل هذا أحد مظاهر مجتمعات العبودية التي انتزع منها الطغاة قيم الفروسية والتراحم والنظر بعقلانية إلى سر عبوديتهم. فالشعوب الخائبة تقلّد جلاديها ولكن على قدر من السوء يساوي الشعور بالضعة والدونية.

تقدم كلوديا في كتاب «السبايا» لدنيا ميخائيل، شهادتها عن مركز من مراكز السبي في الموصل: «رأيت بنتاً في العاشرة، في منتهى الجمال، اسمها لالش. كانت ضفيرتها ما تزال مثلما ضفرتها أمها. أخذوها في الليل، ولم يُرجعوها إلى الصباح. كانت تمشي بصعوبة والدم يسيل على قدميها. مرضتْ بالحمى وحضنتها وعملت لها كمادات وتعلقت بها لأنها مثل عمر ابني هوار. كانت كل دقيقة تقول «أوي داي» يعني «آه أمي»، ظلت تتأوه طوال شهرين كاملين».

«داعش» عارنا العلني الذي يختبئ في لا وعينا الجمعي، ويتجسد في أقبية مديريات الأمن العامة، وهي أيضاً عار العالم الغربي الذي نسمع كل يوم منه أخبار مجازر اليهود التي لم تنته بالتقادم حتى بعد دهور، ولكن جرائم ما يحدث في بلداننا خبر عابر في سماء لا يعكر صفوها سوى أزيز طائرة تعبر المحيط لتقصف وتعود سالمة.


* كاتبة عراقية