إذا ما أحدثت الدورة الأولى زلزالا يفرض على الفرنسيين خيارا واعيا، فإن لا شيء سيمنع مارين لوبن من أن تتبوأ موقع الرئاسة وتغزو الإليزيه في السنوات الخمس المقبلة.

محمد قواص

لن تكون الانتخابات الرئاسية الفرنسية فرنسية الهوى فقط، بل إن أوروبا والعالم ينظران إلى هذا الاستحقاق بصفته مفصلا راديكاليا سيحدد ربما مصير الاتحاد الأوروبي، وبالتالي مصير النظام الدولي قيد التشكل.

ولا ريب أن الضجيج الآتي من لندن، والذي أحدثه إعلان تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، عن إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في يونيو المقبل، قد حمل ماء كثيرا إلى طاحونة الانتخابات في فرنسا.

فأما وأن الحدث البريطاني يأتي قبل أيام من إجراء الدورة الأولى من الانتخابات الفرنسية الأحد المقبل، فإن مآلات الدورة الثانية التي ستجري في مايو المقبل، ستلقي بظلال مباشرة على الاستحقاق البريطاني، والذي يخبئ في ثناياه استفتاء آخر مقنعا حول خروج بريطانيا من أوروبا.

والمتأمل للحدث الفرنسي لن يغفل عن ملاحظة القلق الدولي من إمكانية فوز مارين لوبن، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، ولن يهمل هذا الاحتمال حتى اللحظات الأخيرة من الانتخابات.

باتت لوبن حصانا رابحا تستمد قوتها من أزمة بنيوية تضرب أحزاب اليمين كما أحزاب اليسار، وتنهل صعودها من رواج التيارات الشعبوية في العالم منذ الاستفتاء حول البريكست البريطاني في يونيو الماضي، ومنذ انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة.

وإذا ما تلقت الشعبوية صفعات صحّحت ما تنفخه أحجامها المتخيّلة في انتخابات هولندا واستفتاءيْ المجر وإيطاليا، إلا أن الأمر لا يعدو كونه نكسات ظرفية لم تقوّض الاندفاعة التي تتمتع بها أحزاب اليمين المتطرف.

يتنافس في الدورة الأولى للانتخابات الأحد المقبل عدد كبير من المتنافسين الذين يستغلون عادة منابر الحملات الانتخابية للإطلالة على الجمهور العام في تمارين يختلط داخلها الجدي بالمشهدي.

لكن الأوزان الكبرى تقتصر على مارين لوبن (22.5 بالمئة حسب آخر استطلاع) عن اليمين المتطرف، وفرنسوا فيون (19.5 بالمئة) عن اليمين الديغولي، وإيمانويل ماكرون (23 بالمئة) عن يسار الوسط، وبنوا آمون (8 بالمئة) عن اليسار الاشتراكي، وجان لـوك ميلونشون (19 بالمئة) عن اليسار المتطرف.

وبغض النظر عن دقة التصنيفات التي يتبادل المرشحون التشكيك فيها أو نفيها، فإن ما ترجحه استطلاعات الرأي العام حتى الآن يتحدث عن فوز لوبن وماكرون في الدورة الأولى وانتقالهما للمنازلة الأخيرة في 7 مايو المقبل.

غير أن اللافت في هذه الانتخابات أنها لا تجري بين تيارات يمين ويسار بالمعنى التقليدي البليد، بل على قواعد وقيم وأفكار تخترق كافة الشرائح الاجتماعية أفقيا وعموديا. وفي ذلك أن الكتل الشعبية العمالية التي كانت تصوّت آليا لمروحة أحزاب اليسار باتت مخترقة بشكل كبير من قبل حزب الجبهة الوطنية، وأن كتلة الوسط التي كانت تميل تاريخيا نحو اليمين باتت مشتتة تدلي بدلو موزّع على كل التيارات السياسية.

وينسحب أمر العبث الاقتراعي على الكتل الناخبة للحزب الاشتراكي وحزب “الجمهوريين” الديغولي. فقد جاهرت شخصيات قيادية أساسية على رأس الحزب الاشتراكي بتخليها عن مرشح الحزب المنتخب من خلال انتخابات تمهيدية داخلية بنوا آمون، لصالح مرشح الوسط إيمانويل ماكرون، كما لم تخف قيادات ديغولية عدم دعمها لمرشح الحزب فرنسوا فيون بعد انفجار فضيحة الوظائف الوهمية التي تورط فيها لصالح زوجته.

واللافت أيضا أن الجدل الراهن الذي رافق الحملة الانتخابية يعكس صداما، أضحى عالميا، حول الموقف من العولمة واتفاقات التجارة الدولية، كما الموقف من الإسلام والهجرة وما يجرّه ذلك من نقاش فلسفي أيديولوجي حول الهوية والهوية المضادة.


ولا شك أن المراقب لشؤون فرنسا في العقود الأخيرة قد لا يجد جديدا في نقاش دائم يجيد الفرنسيون الخوض فيه حول كيفية إيجاد نقطة توازن بين شرعة حقـوق الإنسان وقـوانين الجمهـوريـة وقـواعد العلمـانية من جهة، وبـين حماية فـرص العمل وتحـديد موجات الهجـرة وموقع الإسلام والمسلمين داخل المجتمع الفرنسي، كما الثقافة الهوياتية للبلد من جهة ثانية.

وفيما كان النقاش الفرنسي مخصّبا بتقاليد فرنسية متوارثة من الجدل الكامن حول تاريخ البلد الكولونيالي، وحول مسؤولية الدولة الفرنسية عن أعمال الإبادة التي طالت يهود فرنسا إبان الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية، وفيما نمت قوانين العلمنة الفرنسية على أرضية حسم المعركة بين الكنيسة والدولة، فإن نماذج السياسة والدولة في البلدان الغربية الأخرى بدت أكثر مرونة وانفتاحا واحتراما لثقافة الوافدين ولفكرة اندماج الثقافات أو التعايش معها.

فحين كانت باريس تفرض قوانين لمنع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، كان عاديا في لندن أن تشرف شرطيات بريطانيات محجبات على مراقبة جوازات سفر زائريها.

بيد أن ما كان “خصوصية” فرنسية تفرضها “علمانية” مقننة نادرة، بات يدخل في نقاش الراهن في بريطانيا وألمانيا وهولندا كما في الولايات المتحدة نفسها.

جاءت شعبوية المرشح دونالد ترامب لتمحض أفكار التطرف مشروعية حين بات الرجل رئيس أقوى دولة في العالم. بدا الحدث الأميركي مكمّلا للبريكست البريطاني، وصار ما كان عارا وعيبا في ما تبثه أدبيات اليمين المتطرف في أوروبا، قاعدة من عاديات العمل السياسي الروتيني في العالم، وبات رفع الحواجز بين الدول والفصل بين الشعوب والثقافات وصولا إلى العنصرية وجهة نظر قابلة للنقاش حتى من قبل الأحزاب السياسية التقليدية العريقة يسارا ويمينا.

أمام فرنسا هذه الأيام مشهدان. الأول عرفه البلد عام 2002، حين أطاح جان ماري لوبن، رئيس ومؤسس حزب الجبهة الوطنية الذي تقوده ابنته مارين لوبن هذه الأيام، بالمرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان في الدورة الأولى من الانتخـابات الرئاسية آنذاك، منتقلا إلى مواجهة المرشح الديغولي جاك شيراك.

يذكر فرنسيو اليوم ذلك المشهد جيّدا ويعتبرون أن الدورة الثانية للانتخابات الحالية قد تكون تكرارا لتلك الواقعة، حين اتفق أهل اليسار وأهل اليمين على التصويت مـرغمين (في سبيل الـدفاع عن الجمهورية) لصالح المرشح المقابل للتطرف اليميني، فأنتُخب جاك شيراك رئيسا بنسبة تاريخية وصلت إلى أكثر من 82 بالمئة.

لكن المشهد الثاني الذي قد يفاجئ فرنسا والفرنسيين هو عدم القدرة على إنتاج “الكتلة الجمهورية” الصلبة لمنع مارين لوبن من ولوج أبواب قصر الإليزيه.

بات احتمال لوبن رئيسة للجمهورية الفرنسية واردا وربما حتميا إذا ما صدقت بعض التحليلات وإذا ما صدقت بعض التصريحات.

يتأسس افتراض لوبن رئيسة على نجاعة حملتها الانتخابية التي تحاكي كافة الشرائح وكافة الحساسيات السياسية القديمة وتغرف من جمهور اليمين كما من جمهور اليسار.

ويتعزز هذا الافتراض في آلية انتقال قسم كبير من أصوات اليمين الديغولي باتجاه مرشحة اليمين المتطرف، ناهيك عن أنه وبناء على تصريحات مرشح اليسار المتطـرف جان لوك ميلونشان، فإنه في حال عدم فوزه في الـدورة الأولى فلن يدعو ناخبيه إلى التصويت لماكرون، وهو أمـر ينسحب أيضا على ناخبي مرشح الحزب الاشتراكي بنوا آمون وهم من يساريي الحزب الذين سيرفضون التصويت لماكرون المتهم بشبهة اليمـين.

وإذا ما أضيفـت إلى كل ذلـك نسبة كبيرة من الممتنعين عن التصويت كفرا بالطبقة السياسية الفرنسية برمتها، فإن حظوظ لوبن تصبح مرتفعة في اختـراق صفـوف الممانعين وتقـويض جبهتهم والعبور نحو الرئاسة في مايو المقبل.

لا يمكن التعويل دائما على مفاجآت تخرج من الصناديق، فعملية الانتخاب تمرين علمي قابل للتوقع، وإذا ما أحدثت الدورة الأولى زلزالا يفرض على الفرنسيين خيارا واعيا، فإن لا شيء سيمنع مارين لوبن من أن تتبوأ موقع الرئاسة وتغزو الإليزيه في السنوات الخمس المقبلة.


صحافي وكاتب سياسي لبناني