عبد الرحمن الراشد

خلال نقاشات التنمية الماضية لعموم المنطقة لم تكن دعوات تنظيم الأسرة، وبالذات تحديد النسل، تجد إلا إجابات متهكمة، أو ردوداً عدائية بأنها مشروع أجنبي مشبوه، حتى اكتظت البيوت والمدن، والنتيجة الاختلالات التي ترونها، وليس سهلا إيجاد حلول لها، الوظائف والمساكن والعلاج وسلسلة المتطلبات الحديثة الطويلة.


لكن مع انخفاض مداخيل الحكومات والأفراد انخفضت حدّة العداء والتوجس، ونلمس وعياً أفضل. هذه هي الحياة الحقيقية يحكمها توازن دقيق، والنعم قد لا تدوم. في الماضي كانت الأمراض والأوبئة، والمجاعات، والكوارث الطبيعية تحدّ من النمو البشري. ومع تقدم العلوم، واختراع اللقاحات، وتوفر العلاجات، وبناء السدود، وتطوير المنتجات الزراعية، وكيمياء حفظ الأطعمة، والتخصيب والتلقيح البشري طبياً، والكثير الذي مدّ من عمر الإنسان، تغيّرت معادلة علاقة الإنسان بالأرض والبيئة. وليس صدفة أن كل الدول الصناعية يلتزم سكانها بتحديد النسل في حين أن المجتمعات الفقيرة لا تفعل.
في منطقتنا، لم يكن أبداً ممكناً فرض تنظيم للأسرة، وقد فشلت الحكومات العربية التي جربته، وقامت الجماعات المعارضة بالتحريض ضد الأنظمة السياسية في كل مرة تجرّب ذلك، فقط من قبيل الخصومة السياسية.
وليست كل أسباب الفشل بسبب المعارضة بل إن معظمها في الواقع يعود إلى تدني الوعي، وسهولة الحياة بالنسبة للمجتمعات ذات الدخول النفطية العالية.
التوعية تبقى هي الدرب الأمثل لتغيير عادات المجتمع الخاطئة، ودفع الناس إلى مواءمة إمكانياتهم المادية مع رغباتهم وتصوراتهم الحياتية. من لا يملك دخلاً مالياً كبيراً عليه أن يفكر طويلاً في كيفية إدارة شؤون بيته وتكوين أسرته، لأسباب مادية، الغالبية لن تكون عائلات كبيرة العدد، ولن تبني بيوتاً من غرف وصالونات أكثر من حاجتها. وسيكتشفون، تدريجياً، أن فاتورة العائلة ليست إيجار السكن وطاولة الطعام، حتى تعليم الأبناء وتطبيبهم لهما تكاليفهما أيضاً، وستكلف معيشة عائلة من عشرة أفراد ضعف عائلة من خمسة.
الذي يحدث اليوم تصحيح لترتيبات الماضي العشوائية، بما فيها إدارة شؤون البيت، التي ستجبر الكثير على اتخاذ قرارات عائلية وشخصية جداً لأسباب اقتصادية، مثل الزواج المبكر، وتعدد الزوجات، والعائلة الكبيرة، وتوظيف المرأة. ولن يكون سهلاً تصحيح أوضاع الماضي الصعبة، فكثير من الأسر كبيرة العدد، وفي الوقت نفسه صغيرة المداخيل. إنما الذي يمكن هو استهداف الأجيال الجديدة بالتوعية، ليدركوا حقائق الحياة التي يشقون طريقهم فيها، وكيف أن ما يقررونه قد يكلفهم الكثير مستقبلا.
مع هذا نأخذ في الاعتبار أن مجتمعاتنا لن تقبل تدخل الحكومات في خصوصياتها العائلية. لن تقبل أن تكون مثل الصين، تحدد عدد أفراد الأولاد المسموح بهم لكل أسرة، وبالتالي لا يبقى من خيار سوى التركيز على التوعية الاجتماعية، والتعليمية في سن معينة. فتصحيح اقتصاديات السوق، الذي يتم التركيز عليه حالياً، من تخفيض للدعم على السلع الرئيسية، وارتفاع لتكاليف المعيشة المُحتملة، يتطلب تثقيفاً عائلياً يطابق التبدلات الجديدة.