عبدالحق عزوزي

سبق أن نشر لي مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية مشكوراً كتاباً عن «اتحاد عاصفة الفكر: الدلالات والتحديات». وانطلقت من فكرة مفادها أن التراجع في الواقع السياسي في النظام العربي في السنوات الأخيرة، أدى فجأة بسبب أزمة اليمن، وتداعيات التقارب الأميركي- الإيراني في المنطقة، إلى تشكل وعي عروبي قل نظيره مبني على الثقة بالذات، وعلى استعمال كافة القوى الذاتية والمشتركة لتحقيق الأهداف المتوخاة لصون مصالحها وأمنها وحدودها. وهو ما جسدته عاصفة الفكر بقيادة السعودية في تحالف عربي إسلامي هو الأول من نوعه لتعيد العاصفة الروح إلى الجسد العربي المتآكل والدفاع عن الحياض العربية. فكانت إيران تظن أن تدخلاتها في اليمن ستحكم قبضتها وتكمل استراتيجيتها التواجدية والعدوانية، وهي التي سبق لها أن قرعت طبولها في بيروت ثم بغداد ثم دمشق، «فلم يأتها شر حتى تيقنت أن صداها يرعب العرب ويزيد شتاتهم فلا يجرؤون على مواجهتها، فقررت التمدد والتوسع معتبرة نداءات العرب وجنوحهم إلى السلم وحرصهم عليه، علامات ضعف وتراخٍ، وأنهم لا يستطيعون لها صداً». فكانت عاصفة الحزم زلزالاً استراتيجياً لإيقاف الغطرسة والمد السرطاني الخطير لإيران، وإصلاح ما اعوجّ في الصيرورة الإقليمية والدولية للنظام العربي، وكانت بداية صائبة ولا تزال للرد على الضغوط والإكراهات التي توجه إلى المنطقة.

ثم إن هذه العاصفة هي إيذان بضرورة تبني عاصفة استراتيجية أخرى، هي عاصفة فكرية بالدرجة الأولى، تستلزم منا نحن -أهل الرأي والمعرفة- تحالفاً فكرياً لبلورة استراتيجية تداوي مرض العقل والواقع العربيين بوصفات استشفائية لإخراج الأمة من أزماتها، وللإجابة عن معضلات البناء التنموي والنهضوي والوحدوي في إطار عقلانية تعم الشكل والمضمون والهياكل السياسية ومؤسساتها وعقلية وسلوك الجماعات والأفراد لنتموقع في الحاضر والمستقبل. ولنغير الواقع السياسي من لحظة التأزم والانسداد السياسي إلى لحظة النهوض وإقامة قواعد الأمن والاستقرار. وهذا هو كنه اجتماعاتنا المتوالية التي التأمت في أبوظبي والمنامة والرباط ثم بعد يومين في القاهرة، وهذا كفيل طبعاً بتبصير المجتمعات وصناع القرار العربي بحجم المأساة التي نعيشها، والتي يمكن أن تتفاقم إذا لم تزل المسببات في الحال، فالواقع أدخل العديد من الكيانات في أطوار مجهولة الملامح بسبب دورات الصعود والهبوط في ديناميتها.

والموضوع الذي سنتطرق إليه بعد يومين في القاهرة هو عن الأمن القومي العربي في عصر جديد. وقد أبرزت في مقالتي للأسبوع الماضي أننا وصلنا إلى مرحلة جديدة انتقل فيها النظام العالمي من السيادة إلى الارتباط والاعتماد المتبادل بين الدول، ومن قاعدة أولية القوة إلى قدرة الدول الضعيفة أو الصاعدة (اقتصادياً) على زعزعة النظام العالمي القديم، ومن الرتابة إلى مسألة «الحراك» و«التحرك» الدائمين، ومن القراءة الكلاوزفيتزية للحرب المبنية على صراع الدول، إلى نوع من الصراع قائم على تفكك المجتمعات الداخلية. وبمعنى دقيق فإننا أمام انهيار النظام الويستفالي الذي بني ابتداء من سنة 1648. وبمعنى آخر فإن تحديات الأمن القومي في الوطن العربي قد تغيرت، ولم تعد القوة العسكرية الخشنة هي المحددة، ولم يعد ممكناً الاعتماد على تجويع الشعوب مقابل شراء المليارات من الصواريخ والدبابات وتخزينها في الثكنات العسكرية للدول. فالأذكياء في العلاقات الدولية يتحدثون اليوم عن وهن القوة وعن قوة الدول الصاعدة، لأن الاستثمار في الاقتصاد والتنمية والتربية والتعليم هو الاستثمار الأمثل في الأمن القومي، والتعاون بين الدول في إطار (رابح- رابح) هو الاستثمار الأمثل في تحصين الأمن الإقليمي. ولذا نرى دولًا تمكن اليوم شعوبها من العيش الرغد دون تدخلات عسكرية خارجية، ودون أن ترغب في الدخول في قواعد «دركي العالم»! ولا ينبغي أن يُحمل كلامي على أنني ضد التقوية الأمنية والعسكرية والدفاعية داخلياً وإقليمياً، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك أيضاً على حساب الأمن الاقتصادي والتنموي بل والسياسي والثقافي للشعوب.

ولذا فإن العاصفة الفكرية التي نحن في حاجة إليها اليوم هي التي توازن بين الرؤية الثباتية والرؤية الحركية التي تشخص وتؤثر على الذات في نظرة تجمع بين التحليل والتركيب والنقد والإصلاح والمنهج والرؤية لبناء نظام عقلاني تنويري داخلي وإقليمي جديدين، ونظام معرفي مستنير يبعث الحياة في العقل العربي. فالعاصفة الفكرية التي نحن في حاجة إليها اليوم هي التي تهذب الذات من رواسب اللاعقلانية، وتروض الإنسان العربي على المفاهيم العقلانية ليصل الجميع إلى بر الأمان.