سهير حلمى

 

جنيه استقرت طويلاً في قاع المحيط ، لكنها قررت التمرد وكسر الشرنقة ، بل هي حورية استيقظت من غفوتها على دهشة السؤال والبحث عن أصل الأشياء وأسرارها .. من وسط الماء يتصاعد طيفها ، تنثر عنها رذاذها وتتجلى بألوان الحلم : الذهبي الأبيض والأزرق .. على الحافة دائماً والحدود القصوى سيكون اختيارها ..

 

في فضاء يتسع ما بين المحيطين تنساب مفردات حياتها .. حالات من المد والجزر .. تعويذات فرعونية لدرء السحر .. طيور جارحة ، هسهسات مياه .. خيالات مبهمة .. أمنيات محبطة .. مدى مسكون بالغوايات .. أوراق مبعثرة .. انتماءات متعددة .. نغمات هاربة .. حبيب مجهول .. ذاكرة تنتعش بالحنين والفقد .. بحر يمور بالأماني .. .. قنديل يتوهج في العاصفة .. كيان يترنح .. توق دائم للبحث عن علو شاهق يتيح لها الرؤية .. بين الشفاء والسقم تتأرجح وتغادر غياهب الجب لسراديب .. شيء ما غائم في القلب .. روح تعاني هول الفقد ، عذابات نفس مزقها موت الأحبة وهجرانهم .. وجه يتألق كزهرة نضرة نبهتها الشمس فاستقام عودها ومضى نماؤها لا يلوي على شيء .. متحررة من إسار المثالية الكاذبة والادعاء .. شامخة كأعمدة المعابد الفرعونية .. حنجرة ساحرة ترتشف الحزن والغيم وتلونها بالبهجة ورنين الفضة .. شهرة تتصاعد ومصير محتوم!

 




في البدء كانت الأسطورة .. رصدها هانز كريستيان هاندرسون .. برشاقته المعهودة في اصطياد الغنائم .. عروس البحور .. « الحورية « السجينة في أعماق البحار تعيش مع والدها تحت الماء .. وجه محاط بهالة سحرية .. جسد نحيل أضناه التعب .. شعر ذهبي مسترسل يصلها دوماً بالأعماق فهو تميمة حظها .. خرجت من الماء تاركة أمتعتها على المرافئ المتنقلة تحاول بكل عزمها إنقاذ الأمير الوسيم الذي ضربت العاصفة سفينته .. فتسحبه على الشاطئ وتصل به إلى بر الأمان لكنها تتوارى ولا تجعله يراها وتقترب منه فتاة أخرى فيخيل إليه أنها منقذته .. وتهرع إلى جدتها وبإلحاح تطلب منها أن تجد لها مخرجاً لكي تتحول إلى « إنسية « فتجزع الجدة من هذه الأمنية وتكشف لها كيف أن عمر الحورية الطويل قد يصل إلى 300 عام ، وقلما يتجاوز عمر معظم الناس ثلث هذا الرقم ! وبينما تصعد روح الإنسان إلى السماء عند وفاته .. تتحول « السيرينا « أو الحورية صاحبة الصوت الجميل إلى زبد بحر لا نهائي يتجدد كلما تعاقب الموج وتكسر عند الشواطئ.

لكن الفتاة عقدت العزم ولن تلين إرادتها وفي الحال توجهت للساحرة التي ستقوم بعملية « المقايضة « ذيلها المرتعد من شباك الصيادين وسهامهم ، سينبت مكانه قدمان سترقص بهما كما لم يرقص أحد من قبل ، والمقابل صوتها الجميل الذي ستفقده وشعور رهيب بزفرات الألم وهي تتجرع « الشراب العلقم « الذي سيحولها إلى امرأة مثيرة للفضول .. سيتغير العالم من حولها وستغير بدورها حياة من يقترن بها ولن تعود دنياه كما كانت .. سيشعر أن آلاف الفراشات تداعب جبينه ، وكان الشرط الأخير قاسياً .. إذ يتحتم عليها الزواج من الأمير الشاب الذي أنقذته وأحبته حتى تنتقل إليها نفحات من روحه ولكن الأمير يتزوج من فتاة أخرى .. وتلقي الحورية بنفسها في البحر وتلقى حتفها.

في عام 1933 ولدت المليحة « داليدا « يولاندا الايطالية التي تنتمي إلى شبرا - مصر وداليدا الفرنسية الجنسية التي ستنضم لقمم سماء النجومية وأصحاب الاسطوانات الذهبية .. ملكة جمال مصر التي ستقوم بما فعلته السيرينا حرفياً .. ستقع في شرك الغواية .. شرك الموسيقى والغناء ( جوهر الروح ) .. ألم يقل نيتشة أن العالم بدون موسيقى غلطة كبرى ؟! ستقايض فنها بسعادتها .. نجمتنا ستثير الصخب والضوضاء وستشغل العالم من حولها بألقها المشع وصوتها المفعم بالحنين ستفرغ شحناتها العاطفية بأروع الرقصات في أغانيها التعبيرية غير النمطية « جي جي لامبروزو « قديسة ترتدي العباءة البيضاء حيناً تطوى قلبها على المحبة ترقب ظلها في الماء .. تهدهد أحلامها كطفلها المجهض حيناً آخر من جراء قصة حب فاشلة تشدو بها وهي بكامل أناقتها وعالمية انتشارها .. سيصغي إليها العالم ويبحث عن صوت « السيرينا « صوت الغواية وهي تتأرجح على السلم الموسيقي بسبع لغات عالمية ، تقتحم عالم الفن بعطاء وزخم نادرين..

 

 



500 أغنية و170 مليون أسطوانة .. ستتوهج بها أنفاسها وتتألق في أدائها وهي ترفع يديها في سمو وشموخ وكبرياء وتحرر من أي قيود من « بامبينو « التي استيقظت على شدوها أوروبا كلها في الصباح وكانت تذاع في اليوم الواحد عشرات المرات مروراً بعروقها المنتفضة وعيونها الدامعة ووجنتيها المشحونتين بالانفعال ستترك آثار حياتها في أغنياتها « Say no more it is good bye « وهي تشق طريقها إلى حافة البرزخ تواجه حجب الغيب ووجد الأشواق .. ستظل ملكة تنشر أجنحة موهبتها في فضاء القمة الباردة تبحث عن علو شاهق يتيح لها الرؤية الصافية والحب الصادق .. بلقيس تبحث عن سليمان .. وحيدة .. بلا أهل أو أصدقاء أو لجة عميقة تحسبها ماء .. سيرى العالم قلبها في عينيها كما وصفها يوسف شاهين .. ستسافر إلى الهند بحثاً عن الأسئلة التي تعمق وعيها بالزمان .. ستدرك أن الفن لا يعرف شيئاً من تداول السلطة .. ديكتاتورية الموهبة قد تمتد بصاحبها في موقعه وتدوم طويلاً طالما أنها في بؤرة الضوء لم تغادرها إلى هوامش الوهن والاندثار.

كانت اديث بياف تشبهها في ظروفها العائلية ومعاناتها الشخصية. مثلها تنتمي لثلاث بلاد .. « فرنسية ايطالية مغربية الجدة « عانت في طفولتها وتشردت وكانت تغني في الأزقة سعيا وراء رزقها .. فقدت حبيبها في حادث طائرة وارتدت اللون الأسود وقصت شعرها لكنها أعلنت أمام العالم أجمع قبولها بكل قناعة لخسائر الحياة القدرية فكانت أغنيته الشهيرة « Non, Je Ne Regrette » أشهر دعوة عالمية منغمة لعدم الندم على ما فات وما هو آت.

في البدء فعلت مثلها داليدا وحولت أحزانها إلى وقود فني. لكنها ظلت تعاني من قلقها الوجودي بحثا عن المعنى وظلاله ومنابع الدلالات.

الحوريات فتن الأديب العالمي « كافكا » وبدوره ترجم هذا الشغف في رائعته « صمت الحوريات » فقد وضع يده بحذر على مكمن سر خطير لم ينتبه إليه أحد من قبل .. كان الجميع يعلم خطورة الحوريات على البحارة وبعضهم كان يسمعهن وهو مقيد في صارية خوفاً من الانجراف والغرق جراء صوتهن الساحر الذي يأخذ الألباب ويوردها مورد التهلكة .. نصحت إحدى الساحرات « اوديسيوس « في إلياذة هوميروس بوضع شمع النحل في أذنه تجنباً لسماعهن .. ويشير كافكا إلى أننا ندرك جميعاً مصير كل الذين وقعوا في شرك غواية الحوريات .. لكننا لم نعلم إلا من خلال تجربة « أوديسيوس « أن الامتناع عن سماع غنائهن وأن صمتهن كان سلاحا أشد قتلا وهلاكا .. صمت الحورية هو انقطاع الديمومة.. هو جوهر السحر الذي تملكه المرأة باختلاف مكانها ومكانتها .. غناء الحورية هو الولادة المتكررة التي يتجدد بها العهد وتصقل من خلالها التجربة باكليل الغار .. هو اللحظة التي تستحضر فيها الحياة ويتجدد العهد بها وبالأمل والشغف والحنين .. والتعلق بهذه الحياة مرات ومرات بعد أن تضيق الرؤية وتستحكم المشكلات ويتمدد اليأس .. من كوة صغيرة ينساب الغناء وتتبدد عتمات تخدعنا لأول وهلة بانقطاع الحافز المجزي في هذه الحياة .. من غناء الحوريات تستحيل شهقة اليأس الأخيرة إلى سراب يتبدد .. وهذا ما لم تستوعبه داليدا ودفعها للانتحار .. انسحبت ببطء من الحياة .. انخدعت كغيرها وارتعبت من « وحش الفراغ « لم تنظر إليه كنوع من الغياب الذي تتجدد به الحياة ويكون بمثابة بداية جديدة للامتلاء على حد تعبير رولان بارت.

 

 



اختتمت داليدا التي تغنت بالفلامنكو الاسبانية وزوربا اليونانية حياتها باغنية « أنا مريضة « كانت نجمة تتوق للنزول إلى الأرض .. تتمنى أن تكون امرأة عادية.

صاغت نهايتها عنوة وسارت عكس المشيئة الإلهية للأعمار والأقدار وتصرفت فيما لا تملك .. لكن قصة داليدا وأشباهها تتجدد أسطورتها بالحكي الذي يوسع مجال المدى والسؤال .. ويعظم من ايجابيات هذا السواد الذي يطالعنا عند قراءة قصتها حتى نقطة الختام..( انتحارها ) نهاية مؤسفة لكنها في جانبها الإنساني وبعيداً عن أي استنتاجات تتلاشى في ملكوت رحمة الخالق ..تعزز الإيمان بفضيلة الصبر والفقد وانتظار هدايا الأقدار التي لم تأت بعد .. فالبشرية مدينة لكل أصحاب الإخفاقات والفشل والخوف والحمق .. وكل من يرى بعقله ويعيش بقلبه ويحترق بالشمس المتوهجة في أعماقه .. سلام على من خارت قواها أمام ما لم تستطع عليه صبراً..داليدا بنت شبرا التى وصلت للعالمية وشدت فى ربوع الدنيا «حلوة يا بلدى وأحسن ناس « , سلام على داليدا التى حفزنى الزميل سامح الكاشف للكتابة عنها ,والتى دفعه تاريخها ومكانتها لإصدار مجلة تحمل أسمها ..ستصدر عددا خاصا عن حياتها ..سلام على الحورية التي صمتت فبكى جمهورها صوتها وصداها وظلها الممشوق فى الذاكرة والوجدان .

 

 

رابط دائم: