عادل درويش

الانتخابات العامة (البرلمانية) في المملكة المتحدة فرصة لقرائنا الأعزاء، وبخاصة المهتمون بالإصلاح والديمقراطية، لمتابعة استراتيجية كل حزب (10 أحزاب معروفة لقرائنا، وعدد من الأحزاب الصغرى والمستقلين) في الحملة.

الأهمية أن الديمقراطية البريطانية (والمعروفة بنظام وستمنستر، أي التعددية الحزبية الليبرالية الديمقراطية، وتداول الحكم بانتخاب، عبر الدوائر، الحزب الذي يفوز بأكبر عدد من المقاعد) باعتبارها من أفضل الأنظمة السياسية وأرقاها التي عرفها العالم (إن لم تكن الأكثر تكاملاً ونضجاً). هنا نحاول أن نتعمق بالقارئ أكثر، وبخاصة أن معظم الصحافة العربية، بأشكالها كافة، لا تزال تحت تأثير المدرسة الفرنسية (باستثناء قلة تدربوا واختبروا المدرسة الأنغلوساكسونية)؛ ولذا فهي أكثر ارتياحاً في تغطيتها لانتخابات النظم الرئاسية كالفرنسية أو الأميركية.
حيث الانتخابات مثل الاستفتاء، أي قضية واحدة: من سيكون الرئيس؟
ويسهل أيضاً فهمها للانتخابات النيابية في بلدان أوروبا بنظام التمثيل النسبي (القوائم)، حيث لكل قائمة (حزب أو كتلة مجموعات) مشروع سياسي على المستوى القومي، أي تشبه النظام الرئاسي في شموليتها. الأمر مختلف في ديمقراطية وستمنستر.
نعم، لكل حزب في بريطانيا مانفستو (برنامج عمل انتخابي) لإقناع الناخب بانتخاب من يمثله والذي يصبح بعد الانتخابات، إما في مقاعد الحكومة، أو في المعارضة يحاسب الحكومة، وغالباً في لجنة من اللجان المتعددة (التعليم، الدفاع، المالية، الخارجية، التجارة... إلخ). لكن تظل العلاقة الشخصية بأبناء الدائرة هي المعيار الأساسي لنجاح النائب أو فشله، في نظام وستمنستر. وهو ما يفسر تكرار انتخاب نواب مستقلين عن أي حزب ليس لأي منهم مانفستو على المستوى القومي يشمل الضرائب والدفاع والتعليم.
وهناك نماذج لا تحصى عن نواب أصبحوا ملمحاً من ملامح الدائرة لسنوات. الحكومة تتغير من محافظين إلى عمال، والعكس عبر تأرجح (تتغير بين الحكومة والمعارضة) ما بين 50 دائرة في الأحوال العادية، ومائة وخمسين في حالة ما يسمى اكتساحاً كاملاً. نحو 400 دائرة نادراً ما تتغير، ويعود الأمر لشخصية النائب بالمقيم فيها، ويخصص معظم وقته لخدمة ناخبيه وحل مشكلاتهم. وهناك نواب أعلنوا التقاعد بعد ثلاثين أو أربعين عاماً في البرلمان. انتخبهم أبناء الدائرة بصرف النظر عن البرنامج القومي العام للحزب على مستوى بريطانيا. مثل النائب المحافظ السير الآن هيزيلهيرست في البرلمان منذ 44 عاماً، تغير فيها مقعده من معارضة إلى حكومة أربع مرات: عمال (خمسة أعوام)، ثم محافظين (19)، فعمال (13)، فائتلاف (خمسة) فمحافظين (عامين)، وتكرر انتخابه لخدماته بصفته الشخصية لا لسياسة حزبه.
أمر يصعب استيعابه لمن اعتاد على النظام الجمهوري كفرنسا مثلاً.
لهذا؛ تقاوم زعيمة المحافظين تيريزا ماي ضغوط الصحافة المرئية للمشاركة في مناظرات تلفزيونية على الطريقة الأميركية.
زعيم المعارضة العمالية جيرمي كوربين رفض بدوره المناظرة تلفزيونية إذا لم يكن الخصم أمامه هو زعيمة المحافظين نفسها.
خطوة بارعة، فلا يبدو متهرباً من المواجهة بقدر ما يحرم المذيعين ومعدي البرامج (معادين له لأنهم يفضلون زعيماً من التيار البليري) بتحديد أجندة المناظرة.
أسلوب مشترك يوظفه الزعيمان (وهما على طرفي النقيض سياسياً) على مستوى التكتيك، لا الاستراتيجية العامة.
السيدة ماي في اليمين المحافظ، ترى أن المناظرة التلفزيونية لن تفيدها في شيء، بل تفقدها بعض النقاط. فقد دخلت كتاب الأرقام القياسية بوصفها أول زعيم في الحكم تصادف أوج ارتفاع شعبيته موسم الانتخابات، وهو ما لم يحدث من قبل في بريطانيا. تبلغ شعبية ماي 61 في المائة، وبالتالي فأجندة المناظرة تلفزيونية غير مضمونة.
الصحافة المطبوعة التي تعتمد على البيع تتعاطف مع المحافظين الذين يدعمهم 70 في المائة من القراء، بينما معظم الصحافة التلفزيونية يسارية أو ليبرالية النزعة. الأجندة يتحكم فيها معد البرنامج والمذيع.
في الأسبوع الأول من الحملة ركزت ماي على زيارة الدوائر المختلفة لدعم مرشحي المحافظين فيها، ومحادثة الناس في الشوارع والورش والمقاهي. الزعيم العمالي كوربين التجأ للتكتيك نفسه ولم يجرِ كثيراً من المقابلات التلفزيونية. أدرك الزعيمان بدهائهما السياسي (ماي في مجلس العموم لعشرين عاماً، وكوربين منذ 1983) أن التصفيق في الاستوديو أو زيادة عدد مشاهدي التلفزيون قد ينفع في النظام الرئاسي، لكن لا يترجم إلى أصوات تزيد عدد الدوائر الانتخابية في نظام وستمنستر.
بخلاف مصر مثلاً، لا يسير المرشح في شوارع الدائرة بفرقة موسيقى وهتافات؛ بل شخص عادي (حتى في حالة رئيس الحكومة نفسه) مع شخصين أو ثلاثة يوزعون البرنامج الانتخابي، ويدقون جرس الباب ويتبادل المرشح الحديث على عتبة الدار أو الشاي في المطبخ مع الأسرة والجيران، أو في مقهى أو في ورشة عمل. فالحوار الدافئ المباشر على عتبة الدار، والإنصات بتعاطف لشكوى ناخب، يعطي مؤشراً على نسبة الأصوات الممكن توقعها. وتكرار الأمر في الدوائر المختلفة لجمع المعلومات عن مطالب الناخبين، وهمومهم، ويتم تلخيصها وتحليلها ببرامج كومبيوتر خاصة في كل دائرة في المساء. تكتيك يختلف كثيراً عن انتخابات النظام الجمهوري، أو نظام القوائم النسبية.
ويعرف الزعيمان أيضاً أنه رغم مهاجمة الصحافة التلفزيونية لهما، فإن هؤلاء الصحافيين أنفسهم مضطرون إلى متابعة جولات الزعيمين في الشوارع والأسواق وعلى عتبات الدور، وبالطبع تنقل الكاميرات هذه الحوارات، التي يبدو الزعيم أو الزعيمة فيها إنساناً عادياً «واحد مثلنا، بهمومنا»، أمام المتفرجين في أنحاء البلاد كافة.
استراتيجية التحكم في الأجندة اليومية للحملة الانتخابية.
الاتفاق بالمصادفة وليس بالتخطيط المسبق على رفض الدخول في مناظرة تلفزيونية عامل المشترك بين الزعيمين؛ وما عدا ذلك فالاستراتيجية على طرفي النقيض 180 درجة.
رسالة ماي بسيطة وتكررها مستغلة ارتفاع شعبيتها بـ61 في المائة. «المحافظون يمثلون القوة والثبات والاستقرار والدفاع عن مصالح البلاد»، وتحذر الناخب من أن البديل هو برلمان معلق (شعبية منافسها 22 في المائة) والزعيم العمالي كوربين مكونا «ائتلاف الإتلاف» المهدد لأمن البلاد (كررت استعدادها لاستخدام السلاح النووي وكوربين يدعو إلى نزع السلاح واللجوء للأمم المتحدة).
كوربين يستغل تناقص شعبيته بوصفه علامة لانتمائه إلى المستضعفين والفقراء. في آخر مواجهة برلمانية يوم الأربعاء، كان يقرأ من مطالب أرسلها إليه الناخبون ليحرج بها رئيسة الحكومة. إنه يستخدم أسلوب دونالد ترمب، ليس فقط بالتمرد على المؤسسة الرسمية، بل بنموذج عملي على أنه صوت من لا صوت لهم، ونصير من لا يسمعهم أحد. وينقل جوهر جدل الانتخابات من الانفصال عن الاتحاد الأوروبي إلى السياسة التقليدية الاشتراكية للعمال، زيادة ميزانية الصحة، وبناء المساكن الشعبية، عبر تقليل نفقات الدفاع وفرض الضرائب على الأثرياء والشركات الكبرى. استراتيجية تبدو مجازفة أكثر منها مراهنة، لكنها نجحت مع ترمب الأقل خبرة ومهارة سياسية من كوربين.. . .