عزة السبيعي

«الحمام لا يطير في بريدة» رواية يوسف المحيميد، والتي حتَّى بعد قراءتها بسنوات عديدة، تظل تؤرقك؛ ربما لأنَّك- بطريقةٍ أو بأخرى- تشبه فهد بطل الرواية، الذي انتهت به محاولات فاشلة للاتصال بصديقه إلى أن يظهر وجعه المتناقض على السطح، مستبدلًا الجمال خلف زجاج نوافذ القطار البريطاني بصحراء بلادنَا، لتكتشف أن بريدة قد تكون أبها، وقد تكون أيضًا القطيف.
في الرواية تكتشف أنت أن كل ما حولك كان يريد أن يخنقك ويمنعك من الحياة بدعوى حمايتك، لكنه لم يَحْمك أبدًا من أن تشوه روحك بالتحرش في سطح كبير، يمتلئ بالحمام الكائنات الأرق في هذا العالم.

في الرواية والدا فهد وسعيد، إرهابيان حاولا فرض إرادتهما بالعنف، وأرادا معاقبة مَن لا يفعل مثل ما يفعلان بالموت، لكنهما يرحلان بذنوبهما، ويبقى سؤال ما ذنب فهد وصديقه يتحملان تركة الكراهية هذه؟
في تقرير لـ«بي بي سي» عن تفجيرات السابع من يوليو في لندن سنة 2005، والتي نفذها أربعة شباب مسلمين قتلوا الأبرياء، وهم ذاهبون إلى أعمالهم والأطفال إلى مدارسهم. فيديو سجله أحدهم مع طفله الوحيد في الليلة قبل التفجير، ربما كانت أمسية الوداع يودع فيها طفله، في الوقت الذي لم يسمح لضحاياه أن يودعوا أطفالهم. تصور الزوجة الفيديو، تقترب بالكاميرا من الوجهين الضاحكين، ثم تبتعد لتلتقط احتضانًا قويًّا يغمض الإرهابي عينيه فيه، وأتساءل هل دماغ الإرهابي لا يعي أن العنف والموت اللذين يريد توزيعهما غدا، ويخشاهما هو على طفله، لا يمكن أن يغير شيئًا؛ فسيكره الناس أكثر ما يؤمن به، بل سيبتعدون أكثر عن أصل ما يؤمن به، وربما آذوا من جمعه القدر معه بنفس الدين أو العرق أو حتى المدينة. في كل حادثة إرهابية يضع المسلمون في لندن أيديهم على قلوبهم، ويعودون إلى بيوتهم؛ لأنَّهم يعلمون أن مجنونًا سيعتقد أن لهم يدا في ذلك، وأنَّهم تستروا على إرهابي، ثم سيطالب حكومته بطرد المسلمين أو قتلهم.
وضع محزن ومخيف ألَّا تخطئ ويحملك الناس خطأ غيرك، ومهما قلت فإنه سيُفسر كلامك بألف تفسير، فكل الناس الذين لا ينتمون إلى دينك صاروا حزبًا واحدًا، وأنت فجأة رُميتَ فِي حفرةٍ مَع إرهابي.
لنكون صادقين، المؤسسات المدنية في بريطانيا دائمًا أول ردة فعل لها في مثل هذه الحوادث، تأكيد أنَّه لا شأن للمسلمين بهؤلاء الإرهابيين، بل إن موجة يمينية متطرفة دعت إلى أن يعتذر كل مسلم عن هجمات باريس وتفجيرات لندن… إلخ.
فظهر المثقفون البريطانيون رافضين ذلك، وداعين إلى مظاهرات تحت مسمى (Walk together) منبهين المجتمع البريطاني إلى خطورة تمرير رسالة الإرهاب، وهي شق الوحدة الوطنية، وغرس فكرة أن العنف حل لكل شيء، وأن الكراهية قد توصل أصحابها إلى شيء.
لذا على المجتمع أن يستقبل الرسالة ويمزقها، ويلقي بها في سلة المهملات، ويفاجئ الإرهاب بردة فعل إيجابية تؤطر للوحدة الوطنية، وترسخ أن الحب وحده سيحمي الوطن من الإرهاب، وأن العنف المضاد يولد الأحقاد، والتي لا تنتهي أبدًا.
في الحقيقة، أن ما حدث خلال الأحداث الإرهابية في بريطانيا مثيرٌ للإعجاب؛ أعني ما قدمته الحكومة والمؤسسات المدنية والإنسانية والثقافية، لقد حمت المجتمع مِن الغَضب، ووجهته بدقة نحو الهدف بالحب والتفهم والمشي معًا، والقطيف في الحقيقة أقرب من لندن على كل حال.
فهل قامت المؤسسات المدنية في بلادنا بقطع الطريق على الإرهابي ورسائله كما فعلوا في لندن؟