محمد الساعد

عندما قال الأمير محمد بن سلمان في تصريحاته لـ «الواشنطن بوست» قبل أسبوعين: إننا لا نريد أن نعيش في عصر ما بعد 1978، كان يقصد بالتأكيد، الأزمة المزدوجة التي ضربت مجتمعنا السعودي، الذي كان في طريقه نحو الوسطية والتمدن والتحديث، ولم يعرف الانغلاق إلا بسب الحزبيين والمتطرفين.

ما أحدثته «الثورة الإيرانية» من فوضى وإرهاب في العالم، وكذلك الآثار الجانبية التي خلفتها عصابة جهيمان وفلولها في المجتمع السعودي، من غلو في التدين والسلوكيات الجمعية، جعلت منه أمة متشظية، تسعى لإرضاء الأمميين، ومساندة قضاياهم، على حساب وطنهم وسعادتهم. يبدو المجتمع اليوم في طريقه للانعتاق من «إدمانه لجهيمان»، وأدبياته التي اتخذها المتطرفون وسيلة للتحكم بمصائر الناس وعقيدتهم وإبقائهم «منقادين»، لاحول لهم ولا قوة، وطريق سهلة للحصول على الزعامة والمال باسم الوعظ والتدين الصوري. لقد وصل حال السعوديين، للتصديق أن العباءة على الكتف أو رأس الفتاة هي معيار الفضيلة، وإن لبس البنطال يخرجك من الملة، وأنهم لو اشتروا جوالا بكاميرا، فإن الأرض ستميد بهم، وإن طبقا لاقطا فوق أسطح البيوت، سيجعل مدنهم كلاس فيغاس. بالغ المتطرفون في الدفع بالناس لأقصى درجات الوسوسة والهلع، فبدلوا سنن الله الكونية في الاختلاط والتعلم والتعايش وقبول الآخر والأفكار والآراء المختلفة، واستوردوا التدين الحركي الطقوسي، وتركوا وسطيتهم خلف ظهورهم.

طوال ثلاثين أو أربعين عاما، فقد الناس حياتهم، وأصبحوا «أشباه ميتين»، يقضون بقية أيام حياتهم في انتظار لحظة خلاص أو تكفير عن خطايا ربما لم يقترفوها أساسا، رهينو دوامة قضايا مفتعلة، يروجها أرباع وأخماس بل أعشار القصاصين، الذين ادعوا الوعظ والعلم، وهو منهم براء، فتحكموا في مصائرهم وقادوهم لمعارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، داخل البلاد وخارجها، لتنفيذ أجندات حركية محلية وأخرى إقليمية.

عندما اختطف جهيمان المصلين المؤمنين في الحرم المكي العام 1979، واعتدى على الشعائر المقدسة والأنفس المعصومة، اختطف في طريقه المجتمع كله، صحيح أننا حررنا الحرم الشريف من وسخه وقذارته، لكننا نسينا أن نحرر العقول التي تلوثت بأدبياته وفكره، فبقينا رهائن رسائله وآرائه التي كتبها، وتركنا بين أيدي ورثته من الغلاة يستمدون منها ما طاب لهم ويجبروننا عليها.

المجتمع اليوم يعلن توبته النصوحة من إدمانه لجهيمان، بعد أن بقي لعقود لا يستطيع العيش إلا من خلال أنابيب الحركيين الممتدة من يومه المشؤوم إلى الآن، فما رءاه جهيمان بفكره المتطرف، يراه غلام من غلمان الدرباوية حراما نقلا عن واعظه الذي يستقي من نفس المشرب. تلك التوبة من الإدمان على جهيمان تقلق المستفيدين من تعاطي المجتمع لذلك الغلو، فحاربوا هيئة الترفيه، وبالغوا في ردة فعلهم، واجتزأوا تصريحات مسؤوليها، وبنوا عليها حملات ظالمة، كان آخرها لقاء رئيس هيئة الترفيه أحمد الخطيب، مع صحيفة غربية، قال فيها إن من حق غيرالمرحبين بفعاليات هيئته عدم حضورها، وفسرها الحركيون بغيرذلك.

من لا يلاحظ التغير السريع والعميق داخل المجتمع للانعتاق من هيمنة «القصاصين»، فهو في حاجة ماسة لإعادة النظر والتدقيق، يبدو أن الدولة تنبهت لما يريده معظم الشعب، وتيقنت أن الرأي المتضخم الذي يروجه المتطرفون،هو في الحقيقة رأي مصنوع في ثلاثة مطابخ، أحدها في طهران والآخر في لندن والآخر في دولة ضحلة مجهرية، كلهم يعمدون لاصطياد القضايا العابرة، وتقديمها على أنها قضايا رأي عام وهي ليست كذلك، لإحداث انشقاق وصدام مزور.

التأييد الهائل للحفلات الفنية، والفعاليات الترفيهية، والحضور المكثف الذي وصل في أحيان كثيرة لمئة بالمئة من الجمهور، وعودة الطرب والفنانين للغناء في بلادهم بعد انقطاع لسنين عديدة، وملايين السعوديين الذين يتقاطرون لعواصم الترفيه للبحث عن لحظات سعادة نادرة، كلها تشير إلى أن الحقيقة هي غير ما يقوله الحركيون أصحاب الصوت المرتفع، الذين ثبت أنهم لا يمثلون إلا أقل من 5% من تعداد السعوديين.