عرفان نظام الدين

نشكو كل يوم من الانهيارات المتتالية في الجسد العربي، من السياسة إلى العلم والاقتصاد والأدب والثقافة والفكر، ونتساءل: هل العلة فينا أم في ما يحاك لأمتنا، لمحو هويتها والتشكيك في حضارتها وتسفيه تراثها وإنكار دورها الرائد في نهضة الغرب والشرق أيام عصور الظلام.

ويحار المرء في توصيف العلل وتحديد المسؤول، ولكن من المؤكد أن العاصفة ضربت مرتين من الداخل والخارج، فمن بيت أبينا ضُرِبنا قبل أن يضربنا الأعداء.

والسؤال الجوهري المطروح اليوم: هل صحيح أننا جهلة، ونحن ننتمي إلى خير أمة أخرجت للناس وهي تعيش اليوم أسوأ أوضاع وشر واقع؟

ولا يحار المرء بالرد وهو يعلم أن لدينا أعظم شريعة وأعلى مرتبة، فكيف لا نعي حقائق لا لبس فيها.

نعم، نحن جهلة لأننا لم نعِ هذه الحقائق، وحق علينا قول الأستاذ الذي أعجبنا به (المتنبي):

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

هذا إذا كنا أصلاً ننعمُ بجهالتنا في هذه الأيام العصيبة، ونشقى حتى في جاهليتنا وذلنا، حتى بتنا نردّد حكمة شاعر الشهامة عنترة بن شداد:

لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل

فاسقني بالعزّ كأس الحنظل

والأكيد أننا لن نخرج من النفق المظلم، إلا إذا استوعبنا حقائق الدين والدنيا، وأردنا أن نرى النور والإيمان في نهاية النفق وتخلينا عن الشوائب، واتجهنا إلى الله عز وجل، تائبين صادقين مرددين الدعاء: «ربِّ زدني علماً».

أما الجهل، فقد وصفه لنا أيوب ابن القرية عندما قال أن صاحبه (أي الجاهل) «إذا تكلم عجل وإن حدث وهل، وإن استنزل عن رأيه نزل. أما العاقل فالدين شريعته والحلم طبيعته والرأي السديد سجيته، وإذا نطق أصاب وإذا سمع وعى وإذا كلم أجاب».

وأنا لو قدّر لي أن أنصح أحداً فإن نصيحتي الأولى له أن لا تغضب، فالغضب يجلب الشرور ويقلب الحق منك فيصبح عليك، والله عز وجل أرشدنا إلى طريق الخير والعقل، حتى الحجر يصبح غالياً في الرد على السفهاء والجهلة، وقد وعى ذلك الشاعر الذي قال:

لو كل كلب عوى ألقمته حجراً

لصار الصخر مثقالاً بدينار

والأفضل دائماً أن يترك المرء الرد على هؤلاء لأمثالهم، وعدم تلطيخ ثوبه بدنس المدنّسين، وقد كان جدّي رحمه الله يقول لي: أسوأ شيء يا بني أن يعضك كلب، فأنت لن تستطيع الرد بالمثل بعضه، ولا الاشتباك معه لأنه في كل الأحوال سيسيء إليك بنجاسته.

لا أريد أن أطيل، لكن صفحة الجهل فتحت وصار الحوار فيها ضرورياً لعلنا نضع الإصبع على موضع العلة.

ونصحيتي لإخواني العرب: بأن لا تضيق صدورهم وأن لا يهزمهم غير الأيام والناس وأن يتحلوا بالصبر والإيمان حتى يتجاوزوا الهموم لتصدّ عنهم عاتيات الأفكار وشطحات الخيال، وأن يتذكروا حكمة فيلسوف المَعَرّة أبي العلاء المعري الذي قال:

من ساءه سبب أو هاله عجب

فلي ثمانون عاماً لا أرى عجبا

الدهر والأيام واحدة والناس

كالناس والدنيا لمن غلبا

ولا بد من أن ندعو الله عز وجل أن يعيننا وينصرنا على أصحاب الجهل ومثيري الفتن ورعاة العنف والتكفير، فقد حزنت للأحداث الدموية الأخيرة وما زلت مصدوماً، لأن ما حصل لأمتنا خلال السنوات القليلة الماضية لا يمكن أن يمر مرور الكرام، بل لا بد من البحث والتدقيق وسبر الأغوار وكشف الحقائق، وتحديد مواطن العلل ومحرك الفتن ودوافعه.

وأشير هنا إلى ما حذّرت منه، أنا وعدد من الزملاء من المؤامرة القديمة المتجدّدة عبر التاريخ لكسر اللغة العربية عبر مؤامرة التتريك في أواخر عهد الخلافة الإسلامية، ثم في إلغاء الحرف العربي واستبداله بالحرف اللاتيني في اللغة التركية في عهد أتاتورك. وانتقلت العدوى إلى الدول العربية خصوصاً لبنان، بالترويج لإحلال الحرف اللاتيني محل الحرف العربي على يد الشاعر الراحل سعيد عقل ومن ثم من خلال مجلات وصحف وكتب موجّهة من الخارج، إلا أن هذه المؤامرة فشلت وردت السّهام إلى صدور مروّجيها. وكم نشعر بالأسف ونحن نتابع هذه المؤامرات فيما نحن نقرأ عن مئات الكلمات العربية في اللغات الإسبانية والإنكليزية والتركية وغيرها، كما نعرف جميعاً أن الأرقام التي نستخدمها حالياً هي أرقام هندية بينما الأرقام العربية أخذها العالم منا وتفاخر بها.

وحانت الفرصة من جديد للمغرضين الذين يدسّون السم في العسل من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ليلقوا نجاحاً جديداً في المساعي لكسر اللغة العربية وتهميشها. وجاءت الموجة الأولى من الهجمات عبر الفضائيات العربية التي حاولنا التصدي لها من دون جدوى إلى أن عمت الفوضى وصرنا نشهد خليطاً هجيناً من اللهجات المحلية والركاكة في التقديم.

«واكتمل النقل بالزعرور» بعد رواج وسائل التواصل على اختلاف مسمياتها لنقرأ رسائل وتعليقات بالعامية واستخدام الكلمات الهجينة، والابتعاد من اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، ضمن مخطط توجيهي يشارك فيه البعض عن غرض كأداة بغيضة، بينما يساهم به البعض الآخر عن سذاجة أو لمسايرة الموضة والسير في هذا الطريق من دون وعي لمسالكه العويصة ونتائجه الوخيمة والخطيرة على الحضارة والهوية والمصير.

و «زاد الطين بلة» استعمال أرقام مكان الأحرف لدى جمهور واسع من الشباب بحيث صار يتعذّر على أكثرية الناس فهم ما يُكتب لنترحّم على سيبويه وأقرانه ونأسف لتحوّل هذه النّعمة إلى نقمة، ونحذّر من أن الآتي سيكون أعظم إذا لم يتم حصر الأخطار في حدودها الدنيا.

هذا الواقع يدفعنا إلى دق نواقيس الخطر والعمل عَلى تدارك الأمر قبل الوصول إلى حافة الهاوية ومواصلة مسيرة الانهيار وتدمير الهوية العربية والاتجاه للتخلي عن اللغة العربية واستبدالها بالعامية واللغات الغربية. لهذا، تجب إعادة النظر بمناهج التعليم والخطاب الديني وأسلوب التعامل مع الأجيال الصاعدة في عصر التكنولوجيا وثورة الاتصالات واتباع الأساليب المرنة والمشوّقة والتشجيع على القراءة وإعادة الاعتبار إلى الكتاب.

والمؤسف أن معاول الهدم لم تفرغ بعد من تهديد مصير العروبة بكل مقوماتها من ثقافة وحضارة وتاريخ، لكنها وجدت وقتاً إضافياً لتشويه صورة الإسلام وإشاعة أجواء وأكاذيب مضللة عن دين السلام والمحبة ونشر الكراهية ضد المسلمين ورسم صورة مرعبة عنهم وإلصاق تهم الإرهاب والعنف والتطرف بكل مسلم، علماً أن من يقوم بهذه الأعمال الإجرامية هم أقلية تمثل نقطة من بحر الأمة الإسلامية التي يقدّر عدد أبنائها بحوالى مليار وستمئة مليون إنسان صالح ومعتدل.

إلا أن ما يهمنا في هذه العجالة أن نشدّد على الخطوات التمهيدية التي سبقت الحروب والفتن ومؤامرات التقسيم والتفتيت ودأب معاول الهدم على تحطيم أسس البنيان العربي والإسلامي القائمة على اللغة والدين والأدب والتراث.

لو عدنا عقدين من الزمن إلى الوراء لوجدنا الويلات في مجالات التآمر لمحو الهوية العربية وإشاعة الجهل والتفاهة عبر الانحراف، إما إلى طريق جهنم، حيث الميوعة والانحلال والتفلت من الأخلاق، أو إلى طريق جهنم الآخر، وهو التطرف والعنف والإرهاب وتشويه صورة الدين. هكذا، وقعنا بين فكّي كمّاشة وسط الدعوات إلى التحول من الأدب إلى قلة الأدب، أو من الاعتدال إلى التزمّت. وهذه قضية خطيرة أطرحها، لعلها تفتح باب الحوار البنّاء بمشاركة نخبة من المفكرين والمثقفين والأدباء العرب، فهل من مجيب؟