داود الشريان

البكاء يلطف الحزن، وان شئت يطفئه، ويودعه. إذا بكى المحزون غاب حزنه، توارى خلف دموعه. الحزن المبلل بالدموع حزن عابر، لكن الحزن الموجع يستعصي على البكاء، ويبقى طويلاً. الدموع هي موقف المحزون من حزنه، والبكاء في الحزن هو قرار بمغادرته. نحن نبكي لنروي ظمأ النسيان، من اجل أن ننسى، ونمسك دموعنا لنبقى في حضرة غياب من فقدنا، ونخشى من الدموع الغزيرة أن تطوي ذكره، وتروي نسيانه. بعضنا يبكي بكل حواسه ويمنع عينيه، والبكاء في الحزن الموجع يصير حبراً يكتب الحزن ويجعله تاريخاً، والمحزون المتوجع لا يريد أن يجعل فقيده مجرد تاريخ وذكرى. وهو يخاف أن تصبح دموع البكاء مثل ذرات التراب التي تهال على قبر فقيده وتغيبه إلى الأبد.

أكثر الحزن وجعاً يصنعه غياب الأم وفقدها. تخرج إلى الدنيا من رحم أمك. تبتعد، وتشغلك الحياة، وتمر بأطوارها، من الطفولة ألى الشباب، وإذا طال بك العمر، واتسعت همومك تعود إلى الأرض التي ولدت منها. كأنك مهاجر حن إلى وطنه، وشده الشوق إليه. بين رحم الأم والأرض علاقة معنوية حالمة، تفسر معنى الوجود والحياة، أمك هي أرضك، مثلما أن أرضك هي أمك. الإنسان يدرك أنه لا يستطع أن يعود جنيناً كما بدأ، لكنه يحاول تكرار طفولته مجدداً، ويعاود حنينه إلى أمه، يتصرف كطفل كبير، يشتكي لأمه، ويبحث عن عطفها، وإذا رحلت يحس بحزن يستعصي على الحزن، يستبد به خوف طفل فقد أمه.

حين يكبر الإنسان ويفقد أمه يحزن. لكنه لا يبكي لرحيلها، مثلما كان يبكي لبعدها وهو طفل. الحزن على فقد الأم لا يذهبه البكاء، لأنها عصية على النسيان. أمي تعاود زيارة ذاكرتي كل يوم، بل كل لحظة، وتستعيد مكانتها في حياتي، وستبقى مثل ظلي. الحبل السري الذي يربطني برحمها الطاهر لم ينقطع، ظل يربطني بحبها، ويعلمني الركض في الحياة، مثلما كنت أركض في أحشائها. ستبقى أمي معي وبجانبي، وغيابها رغم قسوته، لم يقطع وصلها بي. ما زال حضورها طاغياً في حياتي، أتذكر كلماتها، ونكاتها، وضحكاتها، وعتابها. أطفأت أمي ضوء غرفتها، لكنها لم تودعني، بقيت تحدثني وهي في العتمة، أرى عينيها، وأسمع صوتها تقول، «داود غنى وغنيت يا ناس هذا جناني»!