محمد كركوتي

"التعليم ليس تحضيرا للحياة، بل هو الحياة نفسها"
جون ديوي، فيلسوف وإصلاحي تعليمي أمريكي راحل


بعد القتل، واللجوء والنزوح والموت جوعا وبالغازات السامة، وتدمير مستشفيات ومدارس، وغيرها من أدوات الحروب الإجرامية المشينة، بعد كل هذا، هناك أكثر من 25 مليون طفل بلا تعليم نهائيا في البلدان والمناطق التي تشهد نزاعات، وذلك حسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف". وحتى البلدان التي خفت فيها النزاعات أو ضاق نطاقها، فإن الأطفال فيها ليسوا بحال أفضل في التعليم كثيرا من تلك التي تستعر فيها الحروب والمواجهات. فما تتركه الحروب هنا، يبقى لفترات طويلة قبل أن يزول، وقبل أن تظهر القوى الحقيقية لإزالته بأسرع وقت ممكن. والتعليم أحد عناوين الخراب في مناطق النزاع. فالكلمة للسلاح، لا للدفتر، والاستثمار في التسليح والمرتزقة وقُطاع الطرق، لا في التعليم. إنها حقيقة الحروب والنزاعات في هذا الزمن وفي الأزمان السابقة أيضا، فالتعليم ضحية أولية لهذه الحروب، تستمر آثارها إلى سنوات قد تتعدى جيلين أو أكثر.
حصة العرب من الـ 25 مليون طفل بلا تعليم، كبيرة، خصوصا أن نسبة من النزاعات والحروب لا بأس بها تجري في المنطقة العربية، وتمثل جزءا كبيرا من إجمالي هذه النزاعات. إضافة طبعا إلى حروب تجري في جنوب السودان وأفغانستان والنيجر وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وغيرها. والحق أن إحصائية "يونيسيف" لم تشمل العدد الحقيقي للأطفال الذي أصبحوا بلا تعليم في بلدان كسورية والعراق واليمن. ولعل الأسوأ بينها تبقى سورية في الوقت الراهن، مع وصول عدد النازحين واللاجئين نتيجة الحرب الجارية فيها إلى أكثر من 13 مليون نسمة من كل الشرائح والأعمال ومن كل المناطق في البلاد. وعلى هذا الأساس، يمكن أن يكون الرقم الفعلي أكبر بكثير من 25 مليون طفل.
إنه الواقع الملموس الواضح للجميع، ويتلخص في أن الحروب والنزاعات لا تدمر الاقتصاد وتقضي على أي أمل للتنمية فقط، بل تحرم أطفال اليوم من التعليم، وهذا الأخير هو في الواقع الوقود الوطني المحلي الذي لا غنى عنه، خصوصا في البلدان والمناطق التي تحتاج إلى إعادة إعمار ما دمرته الحروب ذاتها. ففي الوقت الذي تحتاج فيه هذه البلدان إلى كل فرد للبناء، فإنها ستجد نفسها أمام ملايين الأميين والجهلة، دون أن ننسى، أنه ليس أسهل من تحويل هؤلاء الأطفال غير المتعلمين إلى قتلة ومرتزقة وقطاع طرق ومجرمين وإرهابيين. فبدلا من أن يكون لهذا البلد أو ذاك كوادر قادرة على البناء ما بعد الحرب، ستكون لديه أعباء بشرية مخيفة اقتصادية وأمنية.
ليس هناك مجال لتحميل أي جهة دولية مسؤولية تزايد أعداد الأطفال المحرومين من التعليم في مناطق النزاعات. فلا يمكن لأي جهة دولية مهما كان تأثيرها كبيرا، أو حتى قدراتها المالية والبشرية عالية المستوى أن تؤدي دورا محوريا في هذا المجال. والسبب معروف بالطبع، أنه لا توجد أرضية آمنة لإطلاق برامج تعليمية فعالة وضم ما أمكن من هؤلاء الأطفال إليها. نجحت بعض الجهات في توفير التعليم بالفعل لبعض الأطفال، لكن ليس فيها بلدانهم، بل في مناطق خارجية. والوصول إلى هذه المناطق الآمنة أو الأقل خطرا، هو في حد ذاته انتحار، لأن كثيرا من هؤلاء يُقتلون على الطرق، أو تتم سرقة الأطفال أنفسهم لبيعهم، على اعتبار أن هذه التجارة تنشط بصورة لا مثيل لها خلال النزاعات والحروب.
وتفضل نسبة كبيرة من أسر الأطفال المشار إليهم البقاء في مناطقهم على أمل انتهاء المواجهات. وهنا يتزايد عدد الأطفال المحرومين لأن كل المناطق التي يبقون فيها بلا مؤسسات تعليمية أساسا وبالتالي بلا مدارس من أي نوع. إنها مصيبة العصر بلا مبالغة. فهي مرتبطة بصورة مباشرة بالمستقبل الذي من المفترض أن يكون ساحة لأطفال اليوم. المصيبة الأكبر، أن حرمان الأطفال من التعليم يتم حتى في البلدان التي ليس فيها حروب أو نزاعات، وذلك لأسباب اقتصادية بحتة. الطفل يمثل "كادرا" مهما اقتصاديا وفق هذه المعايير المخيفة حقا، وغالبا ما تحظى هذه المعايير بقبول بل وترحيب أسر الأطفال أنفسهم، لأسباب اقتصادية طبعا! فإذا كانت وضعية الأطفال التعليمية في مناطق الحروب والنزاعات مفهومة، فكيف يمكننا فهم الحالات الأخرى؟
وهنا يمكن ببساطة توجيه مزيد من اللوم للجهات الدولية المختصة. صحيح أنها تملك عذرها في صعوبة بل استحالة الوصول إلى مناطق القتال، لكنها لا تملك مثل هذا العذر في المناطق التي لا تشكل أي خطر على عملها، حتى لو واجهت مناوشات من بعض الأنظمة الحاكمة التي لا ترغب في وصول هذه الجهات التعليمية أساسا. الأنظمة المشار إليها، تعتبر الحرف والكلمة من الأسلحة مؤجلة الاستخدام ضدها، وفي أغلب الأحيان لا تستطيع منعها من تأدية واجباتها حيال الأطفال بشكل عام. المهم أنه يمكن تخفيف كارثة أطفال مناطق النزاعات، بتدعيم أكثر لتعليم الأطفال في المناطق التي تشهد مناكفات ومناوشات فقط.