محمد كمال 

صفحات التاريخ، ومنذ الحضارات القديمة من أرض الرافدين وأرض النيل إلى يومنا، مرسوم عليها صور تتشكل منها سطوة سلطة الكهنة في أعلى هرم المؤسسات، وقد كان الحكام الذين كانوا يتشبهون بالآلهة يغدقون على الكهنة نعم السلطة والجاه والمال،

وكان الكهنة هم مادة الفكر والتوجيه الروحاني والإعلامي للناس بما يخدم التحالف الديني السياسي، وصار هذا التحالف من حينه نهجا لكل أنماط الحكم الاستبدادي، فأضحى للدولة دين ومذهب، وتفاقع على سطوح المجتمعات مؤسسات دينية تديرها نخبة ممن نسبوا لأنفسهم وظيفة الكهنة ورجال الدين وشيوخ الدين، فأصبحوا سدنة لتلك المؤسسات الدينية، مؤسسات تكتمل معها كيميائية الاستبداد مع مؤسسات الحكم السياسية. سدنة المؤسسات الدينية والمنابر الدينية كلها، من اليهودية وأخواتها مرورًا بالهندوسية وتلاوينها، والبوذية وطقوسها، والزرادشتية وآريتها، كل هؤلاء الداعون باسم كل هذه الأديان يؤمنون بالمطلق أن الله ربهم وحدهم، وكل منهم يرى في أتباع دينه ومذهبه ولونه هم أبناء الله وهم أحبة الله وهم الفئة الناجية، وغيرهم من أتباع الأديان والمذاهب الأخرى والعقائد الأخرى في نار جهنم... ومن ألد أعداء المؤسسات الدينية كلها هو النهج العلماني، هذا النهج الذي يفصل الدين عن الدولة وعن السياسة، وهو بهذا النهج، أي النهج العلماني، يحفظ للدين احترامه ومكانته الروحانية ويؤكد على دوره التوجيهي في الأخلاق وبث روح التسامح والمحبة بين الناس، دون حاجة لأن يتدخل الدين في شؤون الدولة والسياسة، خاصة وأن للسياسة وشؤون الدولة دهاليز ملتوية تقتضي الكذب والنفاق والتلوث والتلويث، وحري بالدين أن يحفظ في معابد الصدق والطهارة، وهذه نظرة العلمانية في الدين.
ولكن كل سدنة الأديان، كلهم دون استثناء إلا فيما ندر، يكفرون العلمانية ويعتبرون الانسان، الذي يتخذ من العلمانية منهاجا، إنسانا نجسا فاسقا لا يجوز معاشرته ولا مصافحته، وأن من الواجب الديني الذي اقتضاه ربهم رفضهم وحرق كتبهم وان أمكن حرقهم، مثلما كانت المؤسسات المسيحية تحرق العلماء بتهمة الهرطقة وتدنيس الدين، وتحرق النساء بتهمة السحر والشعوذة، بينما ما كان العلماء يهرطقون ولا يتعرضون للدين، إذ كان شغلهم الشاغل هو البحث في أمور الطبيعة واستخلاص القوانين الطبيعية منها، وهذا ما حققوه وبفضل جهودهم تقدم العلم وارتقى الإنسان في مجتمعه وتوسعت دائرة معارفه، المتاجرون بالدين كانوا يرون في العلماء منافسين لهم في توعية الناس بالحقائق العلمية التي تكشف قوانين الطبيعة، تلك القوانين التي تدحض تفسيرات رجال تسيدوا على الناس وأخذوا يعبثون بنصوص الدين تأويلا وتفسيرا بما ينسجم ومصالحهم، وكان هذا العبث بالنصوص إما جهلا فيهم أو علما بجهل الناس، ومن العلم بجهل الناس إلى استغلال الدين في أسواق الجهل والجهالة، وهكذا أضحى الجهل نعمة للدجالين، واستمات هؤلاء الدجالون في نشر الجهل وتسويقه وتمريره في أذهان الناس مغلفا بألوان التفاسير والتأويلات التي تجعل من الجهالة عبودية مدرة لأرزاق الدجالين ومثبتة لسلطانهم وسطوتهم على الناس، ولم تكتف سدنة المؤسسات الدينية بمحاربة الجهد العلمي والنهج العلماني بل امتدت حروبهم ضد بعضهم بعضا، فصارت الأديان تتنافس فيما بينها، وفي إطار الدين الواحد هناك صراعات ومناكفات وحروب بين مذاهب الدين ذاته، وكل دين يدعي أن الله معه، وأنه يحارب الأديان الأخرى والمذاهب الأخرى من أجل ربه، وكأن الله في حاجة إلى من يحارب من أجله، وهم بهذا النهج المدقع في الإسفاف والمفرط في الدجل والاستغلال يغيبون عن أذهان الناس المبدأ الإنساني المطلق من وراء الأديان وهو أن الله أرسل الرسل والأنبياء رحمة للعالمين، ولم يبعثهم للدفاع عنه والذود عن حياضه، فمن يدعي أنه يحارب من أجل الله فإنه يتقول إثما وبهتانا على الله وعلى الأنبياء والرسل... دجل في دجل ليس إلا، وهم من أكثر الناس كفرا وتكفرا بالله وبما أنزل من الأديان، والأديان رحمة للناس وبالناس.
المؤسسات الدينية أضحت موارد للمال والانتفاع، وسدنتها يستحيل عليهم ترك هذا المورد الذي يدر عليهم من اقتطاعات مال الناس البسطاء المغرر بهم، مثل الخمس والهبات وضرورات الصدقات وجابي ضرائب الزكاة من عامة المؤمنين الذين تدنى أيمانهم من الإيمان بالله الخالق الى الإيمان بكل ما يتقول به دعاة التجارة بالدين، إلى أن أصبح هؤلاء الدجالون رموزا مقدسة تحاط بسياج من الخطوط الحمراء، وأمثال هؤلاء المغرر بهم والذين يقدسون تحريض الدجالين هم الذين اغتالوا المفكرين والفنانين والمبدعين، وهم الذين حرقوا العلماء والنساء في عصور الظلام في أوروبا المسيحية... واليوم يتصدرون في حربهم ضد النهج العلماني في معظم دول العالم الثالث، ومنهم عالمنا العربي والاسلامي المترسب في قاع العالم السابع، وفوقهم سبع سماوات طباق.
تمكن التنويريون في القارة الأوروبية وبعدها أمريكا واليابان والهند وكوريا الجنوبية من نشر النهج العلماني في الدولة وفي المجتمع، بينما في عالمنا، قاع العالم السابع، فإن العلمانية ودعاة العلمانية يعيشون في أجواء مشحونة بالرفض المطلق لهم ولمنهجهم، وإنه لولا الاعلام العالمي الذي صار كاشفا لكل فعل وقول لقام الدجالون بمذابح ضد دعاة العلمانية...
العلمانية تعيش مأزق وجود، مأزق التنفس، فما بالك بمأزق القول والتعبير والكتابة والفعل...
من أجل أن تتنفس العلمانية في ظروف العولمة المعاصرة لا بد من دعم سياسي من قمة هرم الادارة السياسية على المستوى الوطني والأممي، بمعنى تحول استراتيجية الدول الى تبني النهج العلماني مثلما الامر في أوروبا، وأن تتبني مؤسسات الامم المتحدة مشروع الترويج والدفع بالدول الى تبني نهج العلمانية...
ومن المفارقات المؤلمة والمؤسفة أن بعض الدول العلمانية - دول كبرى - تساند أنظمة ثيوقراطية من اجل مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، وهذا الدور بحد ذاته يعرقل مسار العلمانية في دول العالم الثالث ودولنا في قاع العالم السابع...