بكر عويضة

يُفترض أن تشكل وثيقة «حماس»، التي أعطتها صفة «وثيقة مبادئ سياسية جديدة»، رداً على ما كان أفيغدور ليبرمان، وزير الدفاع الإسرائيلي، عرضه السبت الماضي على الحركة، وخلاصته: وقف بناء أنفاق، والكف عن إطلاق صواريخ،

مقابل رفع الحصار والمساعدة في فك ضائقة القطاع الاقتصادية، بما في ذلك تشييد ميناء غزة. عرض ليبرمان، المعروف عنه تشدد مواقفه إزاء الفلسطينيين عموماً، وتطرف سياساته اليمينية حتى تجاه خصومه الإسرائيليين، ليس جديداً. هو سبق أن طرح مثل هذا العرض في فبراير (شباط) الماضي، ورد عليه دكتور محمود الزهار، أحد قادة «حماس» المؤسسين، برفض واضح ضمنه عبارة قالت إن الفلسطينيين لو أرادوا بناء سنغافورة في غزة، فسوف يبنوها بأيديهم وليس بمِنّة من أحد. ذلك الرد من جانب الزهار ينسجم تماماً مع مضمون وثيقة «حماس» المُعلنة أول من أمس من الدوحة، ليس فقط على عرض ليبرمان، وإنما على مجمل شروط عملية السلام مع إسرائيل.
يبدو الأمر، في الظاهر، مثيراً للحيرة. فحركة «حماس» تعلن عبر وثيقتها قبول دولة فلسطينية ضمن حدود خامس يونيو (حزيران) 1967، إنما من دون اعتراف بإسرائيل، أو قبول بمسار عملية السلام، بدءاً من أوسلو. تناقض واضح تمام الوضوح. قيادات «حماس»، التي ليست تنقصها ثقافة سياسية، ولا خبرة ميدانية، تدرك ذلك التناقض جيداً. لكن الواقع يقول أيضاً إن التعارض في المواقف السياسية ليس حكراً على «حماس» وحدها. حكومات تل أبيب المتعددة، وليس الحالية فقط، وساسة إسرائيل بمختلف أطيافهم، مع ملاحظة استثناءات محدودة، لطالما تخبطوا في تناقضات المراوغة السياسية، كلما تعلق الأمر بالتوصل إلى الحل السلمي العادل مع الفلسطينيين. سبب ذلك جداً بسيط: مجمل «عروض» ساسة إسرائيل، وعرض ليبرمان ليس سوى أحدث المعروض منها، وما هو بآخرها، يعاني أزمة رفض الإقرار بحق شعب أرض فلسطين في أرضه، ولا حتى حقه في قيام دولة له فوق ثلث تلك الأرض. لو أن قيادات الطرفين، الفلسطيني (ممثلاً في التنظيمات باختلاف مناهجها) والإسرائيلي (ممثلاً في حكوماته وأحزابه) لم تستمرئ ممارسة المراوغة السياسية طوال الخمسين عاماً الماضية، على الأقل، لما كان لهذه الدوامة أن تتواصل بكل أشكالها المأساوية. إنما، للأسف، واقع ممارسات تلك القيادات، على الجانبين، يقول إن مطامح أجنداتها ومصالح تحالفاتها تتعارض فعلاً مع الوصول بالشعبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى نعيم العيش بسلام معاً. لولا ذلك التعارض، لما أخطأ ليبرمان وغيره من ساسة إسرائيل عنوان التخاطب بشأن فك الحصار عن غزة. العنوان الصحيح هو السلطة الفلسطينية المُعترف بها دولياً. ثم، لولا ذلك التعارض أيضاً، لكانت قيادات «حماس» جربت التعامل بالإيجاب مع أي عرض إسرائيلي يحقق ولو بعض التقاط أنفاس للمحاصرين منذ تسلم الحركة حكم القطاع قبل ما يقرب من عشرة أعوام. تكرار اللاءات هو الأسهل، أما نعم المتحدية لعروض ساسة إسرائيل، بغرض تبيّن صدقيتها من زيفها، فهي الأصعب، وهي إن لم تنفع فلن تضر، ولن تقلل من شأن القيادات مقدار ذرّة.
في سياق ليس بعيداً عما سبق، لفتني قبل أيام عنوان «بلقنة سوريا» على غلاف عدد إبريل (نيسان) 2017 من تقرير «الديبلوماسي» الشهري، الذي يصدره ويحرره من لندن ريمون عطا الله، الصحافي اللبناني المعروف في الأوساط الصحافية والسياسية العربية. بعدما طالعت الملف المهم في العدد (شارك فيه كل من زبيغينيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، والباحث الجيوسياسي البرازايلي بيبي اسكوبار) رحت أطالع بألمٍ تفاصيل خريطة تصدرت الغلاف وضعها المؤرخ السياسي البريطاني – الأميركي برنارد لويس لدولة سوريا المبلقنة، وقد جُزئت أربعة أجزاء، ثم وجدتني أتساءل، بحيرةٍ وأسى، ترى أيتوقف مشروع البلقنة داخل الأرض السورية، أم يواصل الزحف، فلا ينجو حتى حلم الدولة الفلسطينية المستقلة من بلقنة تفصل غزة عن رام الله نهائياً، بل الأخطر أن يُسمح لمخططات التقسيم أن تتسع، فإذا بفأس البلقنة يقع في الرأس ثم القلب، وإذا نحن أمام واقع بلقنة العالم العربي كله؟ دعونا نرجح كفة الأمل ألا ينجح هكذا شر يُراد بالعرب أجمعين. لكن الأمل وحده غير كافٍ. التعامل الإيجابي، التفكير المنطقي، ثم التطبيق العملي، تبقى هي أسس الطريق الأصح..