محمد المختار الفال

< لديَّ قناعة بأن أكثر الأقاليم تأثيراً على سكان الجزيرة العربية، اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً وثقافياً، أفريقيا وشبه القارة الهندية، فالقرب الجغرافي أدى إلى نمو تبادل المنافع وتمازج الأعراق وهجرة الثقافات والعادات، منذ قديم الزمان، ويتعاظم هذا التأثير مع اطراد زيادة الوافدين منهما خلال العقود المتأخرة. وأفريقيا – في عمومها – تلقى اهتماماً ملحوظاً من الدول الغربية، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتداعي المنظومة الاشتراكية ورحيل «قادة التحرر» الذين لديهم «حساسية» خاصة ضد الغرب، كما أن القارة أصبحت موضع اهتمام القوى الاقتصادية الصاعدة، الصين والهند، فهذان البلدان يقودان حركة تجارية واقتصادية واستثمارية ضخمة في مجالات البنية التحية والتنمية الاجتماعية. والغرب، والأوروبيون بصفة خاصة، يدركون أن الوضع تغير، وأن القيادات الفاعلة في أفريقيا المعاصرة أكثر «براغماتية»، وأقدر على تجاوز «حساسية الماضي» في سبيل تحقيق الأهداف وتجاوز الاختناقات الاقتصادية والضغوط التنموية التي تؤرق من يقعد في غرفة القيادة. ومن يلقي نظرة على «خريطة النفوذ» القديمة يلحظ تغيراً واضحاً، فغرب القارة الذي كان «ميداناً فرنسياً» خالصاً واللغة الفرنسية هي سيدة الموقف تبدلت أحواله وأصبحت اللغة الإنكليزية حاضرة، لا باعتبارها لغة ثانية بل اللغة الأولى لكثير من أبناء وبنات النخب الحاكمة. وليس صعباً معرفة أسباب هذا «التحول»، فالمصالح الاقتصادية وفرص العمل في الخارج كانت الدافع الأساس لتوجه هذا الجيل من الأفارقة إلى تعلم اللغة الإنكليزية.

ومنطقة شرق القارة تواجه تحديات كثيرة، صبغتها بالهشاشة في غالبية هياكلها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وزاد من وطأة هذا الوضع الحروب والقلاقل طوال الـ20 سنة الماضية، مما سهل اختراق أمنها وأشاع مظاهر انعدام الاستقرار، وبالتالي الانعكاس السلبي على الأوضاع الاقتصادية والتنموية.

وإذا كانت الدول العربية، والخليجية بصفة خاصة، تعنى بقضايا الأمن وتؤمن بتأثرها بما يجري في هذا الجزء من العالم المتصل بها، جغرافياً وبشرياً، فإنها في حاجة إلى إعادة النظر في آلية تعاملها مع القارة الأفريقية. لا أحد ينكر ما تفعله المملكة العربية السعودية من تحركات مدروسة لمعالجة حال الفراغ في العلاقات الأفريقية العربية، التي حدثت نتيجة تراكم الوقائع، وانشغال غالبية الدول العربية بقضايا بعضها داخلي وبعضها إقليمي وبعضها متأثر بالسياسة الدولية التي «ترسم» مساراتها الدول الكبرى، على رغم كل هذه الحقائق إلا أن اهتمام الدول الخليجية بأفريقيا لا يتناسب مع ما تشكله هذه القارة، وبالأخص شرقها، من أهمية وتأثير على الواقع الاقتصادي والأمني.

فشرق أفريقيا يمثل لمنطقة الخليج خاصرة جنوبية يجب أن لا تترك مكشوفة يستغل الخصوم والأعداء هشاشتها وضعفها، مما يدعو إلى إعادة النظر في العلاقة معها، والبحث عن آليات تساعد على الإسهام في معالجة الاختلالات التي تسهل اختراقها وجعلها مصدراً لتهديد الاستقرار، ودواعي الاهتمام ليست محصورة في الجانب الأمني، على رغم أهميته، بل هناك جوانب إيجابية كثيرة تصب في أوعية الاقتصاد، وتفتح مساحات جديدة لحركة الاستثمار في العديد من المجالات، ويمكن لرأس المال الخليجي، الحكومي والأهلي، على سبيل المثال، الاستثمار في القوى البشرية من خلال تحسين التعليم والتدريب، الذي تعاني من نقصه دول تلك المنطقة، ليجعل منها مصدراً للعمالة المدربة المغذية للأسواق الخليجية، وهذا الاتجاه يحقق فوائد اقتصادية واستراتيجية وثقافية وأمنية.

إن ربط المجتمعات في هذا الجزء من العالم بالمنافع يوطد علاقة قوية لها صبغة الديمومة، لأنها تقوم على مصالح الطرفين الحريصين على استمرارها، وليست علاقة هشة يمكن تفكيكها والتخلي عنها متى ما وجد البديل الذي يقدم «الإغراءات» الآنية.

إن الاهتمام بتمكين الإنسان يعيد العلاقة بين الدول العربية والأفريقية إلى مسارها الثقافي الطبيعي، فجل سكان هذا الجزء يرتبطون بالثقافة العربية ببعديها الديني واللغوي، وقد تعرضت هذه العلاقة، في هذا الجانب إلى تشويه وفتور، بل انقطاع في بعض الأماكن نتيجة لملابسات مركبة يتحمل العرب جزءاً مهماً منها، لتقصيرهم في دعم حضورها في حياة سكان هذه الدول وبين هذه المجتمعات، على رغم التاريخ الناصع للغة العربية وما تحمله من قيم ومبادئ. والمهتمون بتتبع جذور التأثير الثقافي في الإنسان الأفريقي يؤكدون أن الإسلام ووعاءه، اللغة العربية، لهما تأثير أصيل في صناعة الشخصية الأفريقية الحضارية، بالأخص في شرق القارة، لما اتسم به هذا الدين من البعد عن العنصرية والتمايز الطبقي، بعكس ما عرفته القارة السمراء في ظل هيمنة العرق الأوروبي وثقافته، التي رسخت في وعي الأفريقي أنه في درجة أدنى من «الرجل الأبيض». وقد حاول الاستعمار، والفرنسي بصفة خاصة، أن يفرض لغته على ثقافة البلدان التي سيطر عليها ومحو ما سواها، وخصوصاً العربية، حتى توهم بعض الأفارقة أن «تاريخهم الإنساني» يبدأ مع عهد الاستعمار، وأن ما قبله مرحلة «حيوانية» جدير بالأجيال المتحضرة المعاصرة نسيانها.

وليس من مصلحة العرب والمسلمين أن «تغطي» الأحداث الطارئة، القيم والمبادئ التي ربطت العرب بالأفارقة على مر التاريخ، التي سعى مؤتمر القمة العربية في 1977 إلى المحافظة عليها وبلورتها في صيغة تعهد بتنمية العلاقات على المستوى الثنائي والمتعدد الأطراف في المجالات المختلفة، مع التركيز على الجانب الاقتصادي، والتشجيع على التعاون الفني وزيادة المساعدات الثنائية وتوظيف الأموال، وليس سراً أن العلاقات العربية الأفريقية تعرضت لشكوك، بل وتراجع نتيجة لأحداث سياسية مطلع الثمانينات من القرن الماضي، بعد اتفاق كامب ديفيد وما تلاه من أحداث، وصلت حد مطالبة منظمة الوحدة الأفريقية الدول العربية بعدم «تصدير خلافاتهم» إلى القارة، وقد استثمرت إسرائيل هذه الأحداث لترفع عنها الحصار المحكم على مدى عقود، انسجاماً مع الحقوق الفلسطينية، ومراعاة للعلاقات مع العرب. فهل نرى تحركاً منتظماً تشترك فيه المجموعة الخليجية «لتحصين» شرق القارة الأفريقية بالمصالح المشتركة؟