سمير عطا الله 

«... نوماً هانئاً أيها الرجل العجوز. قالها الفتى، وخرج. لقد انتهيا من تناول العشاء من دون مصباح على الطاولة، وخلع الرجل سرواله، وطواه على شكل وسادة، بعدما وضع الجريدة فيه. ثم طوى نفسه في الشرشق، واستلقى على الصحف القديمة الأخرى التي مدّها وغطى بها رفاصات السرير».

الفتى، هو مانولين، العجوز، هو سانتياغو، صياد السمك الهرم في رواية «الشيخ والبحر»، التي نال عليها إرنست همنغواي نوبل الآداب عام 1954. والآن، بعد 65 عاماً على صدور الترجمة الفرنسية الأولى، صدرت الترجمة الفرنسية الثانية. رواية من 99 صفحة، مع الغلاف والحواشي. ولكن لماذا أعطيت «نوبل»؟
ليس في الرواية سوى بطلين. العجوز الذي بلغ الخامسة والثمانين، والفتى ابن الثانية عشرة. رجل في قلب اليأس «لم يعد يرى الناس في أحلامه. ولم يعد يحلم بزوجته. صار يحلم فقط بالأماكن. بشواطئ أفريقيا بلونها الأبيض الذي يبهر العين». بأي لغة كتب همنغواي أشهر مؤلفاته؟ بأبسط لغة يمكنك تخيّلها. لو كنتَ لا تجيد الإنجليزية تماماً، لما احتجت حتى الاستعانة بالقاموس عبر 99 صفحة. لكنني لا أعرف كم استغرقت الترجمة الفرنسية من الوقت. البساطة الفائقة خادعة أحياناً، مثل الجمال البسيط: يعلن نفسه، لكنه لا يفسرها. إذا شرحها ألغاها.
يروي همنغواي حكاية الشيخ والبحر مثل حكاية يرويها جدك، عدد محدود أو فقير من الكلمات. لا نعوت. سرد. ثم من سرد إلى سرد. وباختصار. فالموضوع لا يحتمل الإطالة. الملحمة في روح القصة، لا في حجمها. 99 صفحة. لم تصل حتى إلى المائة. ولكن لماذا «نوبل»؟ لأن همنغواي يدفع التفاصيل إليك مثل الموج الذي يدفع الزورق العتيق، ومثل الرمح الذي عاش الصياد منه طوال حياته: حارة ومالحة وبلا هوادة. العجوز يصارع البحر الذي مدّه بالرزق طوال عمره، للمرة الأخيرة، بحثاً عن سمكة ضخمة. جميع الصيادين الآخرين عبأوا زوارقهم وعادوا إلى بيوتهم ومقاهيهم وجلبتهم، إلا هو. 84 يوماً في البحر، ولا شيء. ابتعد عنه الصيادون. ظنوه «منحوساً» بلا حظ. وطالب أهل الفتى، مانولين، ابنهم بترك العمل مع العجوز، لكنه يهرب إليه.
في اليوم الخامس والثمانين، تعلق سمكة ضخمة بسنارة سانتياغو ويبدأ صراعه معها لوضعها في قاربه الصغير بعد أن يطعنها بحربته. وبعد ثلاثة أيام من الإنهاك، تلتم الحيتان حول صيده. وبعد 99 صفحة تكون قد عرفت لماذا حاز همنغواي على «نوبل» في تاجه الأخير.. .