نبيل عبد الفتاح

تطرح تطورات وتحولات عالمنا الرقمى عديد التحديات الصعبة على الفكر الدينى والاجتماعى والسياسي، بل وعلى الوجود الإنسانى ذاته فلسفيًا وكينونيًا، لاسيما التحول من الإنسان الفعلى كمركز للكون ثم الطبيعة كمركز موازٍ إلى الإنسان الرقمى بكل تأثيرات ذلك المركبة على الإنتاج المعرفى والفنى والأدبي، وعلى اللغة وأنساقها وأساليب السرد، وإنتاج الخطابات.

ثمة تعقيدات وربما نسبيًا عدم صلاحية مناهجنا ولغاتنا وإصطلاحاتنا فى تحليل اللحظات التاريخية لعملية التغير وآثارها، لأن مقارباتنا ونظرياتنا ومفاهيمنا وأفكارنا وأساليبنا فى التفكير والتعبير والوصف والتحليل تنتمى إلى عالم ما بعدى فى طور التغير السريع والعاصف والمكثف، وتبدو معه أدواتنا قاصرة وغير قادرة على استكناه ظواهره وتقلباتها وتحولاتها. بعض الفلاسفة والباحثين يحاولون اللهاث وراء وصف هذه الظواهر، والتركيز على بعض عناصرها أو أجزائها كالسيولة أو عدم اليقين أو ما بعد العلمانية، أو الإرهاب، إلى الصداقة والحب والجنس والأخلاق واللغة الرقمية، وانعكاساتهم على المشاعر، والألم، والحزن، والوحدة والعزلة، وعلى تفكك الأنساق الاجتماعية الفعلية، كالزواج، والأسرة، والعقائد، والطقوس، والمؤسسات السياسية والاحتباس الحراري، وتدمير النظام البيئى ... إلخ! عوالم حداثية وما بعدها تتغير إلى ما بعدُ بعدها ...

هذا النكوص التاريخى الماضوي، ورفض اجتهادات مهمة لبعض رجال الدين منذ مطالع النهضة المصرية، وعدم تجدد المؤسسات الدينية الرسمية وجمودها، يعود إلى عديد الأسباب، على رأسها ما يلي:

1- انكسار مشروعات النهضة والتحديث والحداثة، وعدم تحقق أهدافها لأنها ولدت مبتسرة ومهجنة وذات طابع مناور مع منظومات الفكر والقيم التقليدية التى كانت سائدة منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى المرحلة الراهنة، حيث تعثرت المحاولات الإصلاحية فى ظل هيمنة القوى المحافظة وإقصائها لبعض المجددين وعدم استكمالهم لمحاولاتهم الجسورة.

2- انهيار المشروع شبه الليبرالى سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، عقب ثورة يوليو 1952 وتأميم المؤسسات الدينية الرسمية، واستخدامها فى دعم وتأييد التسلطية السياسية، على نحو أدى إلى إنتاج نمط من التسلطية الدينية التبريرية التابعة.

3- التوظيف السياسى للدين ومنظوماته وتأويلاته الوضعية فى بناء الاجماع السياسى السلطوي، ثم الصراع عليه تأويلاً واستخدامًا فى الصراع السياسى بين النظام التسلطى الساداتى وبين قوى اليسار والناصرية ثم بينه وبين الجماعات الإسلامية السياسية من الإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامى وجماعات المسلمون، والجهاد والجماعة الإسلامية، حتى نهاية عهد مبارك، وعقب 25 يناير والمراحل الانتقالية.

4- تمدد الحركة السلفية وجماعة الإخوان وبعض الغلاة داخل المؤسسة الدينية الرسمية على نحو ما ظهر فى ظل المراحل الانتقالية وحكم الإخوان والسلفيين.

5- سطوة الفكر الدينى القديم وإعادة إنتاج التفسيرات والتأويلات الوضعية داخل المؤسسة وخارجها نظرًا لتمدد الفكر السلفى والإخوانى والوهابي، المستصحب من إقليم النفط مع بعض الدعاة، ورجال الدين.

6- تراجع دور الفقيه لصالح الداعية الدينى «الشعبوي» والمفتى الشعبوي، ودعاة الطرق خصمًا من أدوار بعض الأزهريين، وخاصة فى ظل ترك السلطة الحاكمة لهذه الأنماط بالتمدد ومعهم الإخوان والسفليين، فى بناء حواضن وشبكات اجتماعية اسهمت فى إحداث تغييرات فى مكونات الدين الشعبي، وأنماط التدين الاعتدالية.

7- ترييف الفكر والخطابات الدينية لدى بعضهم فى المؤسسات الدينية والسلفيين والإخوان الذى واكب وتداخل مع ترييف أجهزة الدولة، وثقافة المدينة فى ظل سطوة الداعية السلطوي.

من هنا نستطيع فهم بعض ما رانَّ على الفكر الدينى الوضعى من نكوص ماضوي، وفجوة تاريخية بين التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية والقيمية والرقمية، وبين الإنتاج الفكرى والفقهى والإفتائى والخطاب الدينى عن تحديات عصرنا وتعقيداته. وذهب بعض الغلاة إلى دعم الجماعات الإرهابية وتسويغ سلوكها الدموى العنيف، ونزوعها التكفيري، وتسويغ محاولات هدم الدولة الحديثة ونظامها القانوني، وتغيير جذرى للهندسات الاجتماعية والقيم الحداثية المبتسرة، على نحو ما ظهر مع بعض الجماعات كالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» والنصرة وبوكو حرام، والسلفيات الجهادية فى المغرب العربى ... إلخ.

أحد أخطر الفجوات بين الفكر الدينى الوضعى السائد، وبين ما يحدث فى عالمنا تتمثل فى تقليدية ونقلية مناهج دراسة الموروث الدينى الوضعى التى يحملها الفقيه والداعية والمفتى وإضفاء بعض التقديس على آراء واجتهادات ذات طابع تاريخى واجتماعى كان سائدًا منذ قرون، ومحاولة تطبيقها على عالم ومجتمع ومشكلات معاصرة ومعقدة. إضفاء القداسة على بُنى من الأفكار والآراء والاجتهادات والأشخاص، هى نزعة دفاعية عن رجال دين لا يجتهدون فى سياق من الشروط والضوابط، وإنما عن مواقعهم وأدوارهم الاجتماعية.

ثمة عسر فى التكيف بين نمط الداعية الدينى الشعبوي، والأيديولوجى الدينى السياسي، وبين معارف عصره ومشكلاته وظواهره الكبري، والأخطر بينه وبين أوجاع الإنسان المصرى من غياب الحرية والعدالة والكرامة وتكافؤ الفرص والحق فى العمل والصحة والتعليم ... إلخ! بعضهم لا يكلف نفسه التصدى بالمعرفة والوعى الاجتماعى لمشكلات الفقر والتهميش والإقصاءات الاجتماعية عن الفرص المتساوية والمتكافئة فى الحياة الكريمة فى مجتمع يقوم على الاستعلاء، والاستغلال الاجتماعي، والقهر للمرأة والفقراء والقمع التسلطى لدولة تحتاج إلى تجديدات جذرية فى نخبها وهياكلها وثقافتها وأجهزتها وتقاليدها وأساليب عملها.

هناك غياب لدور رجل الدين الداعم للتغيير الإيجابي، والإصلاحي، والسعى بالأفكار التجديدية إلى تجاوز الفجوات التاريخية والمعرفية بيننا وبين العالم العاصف بالتحولات الكبري. ثمة حالة من الوسن العقلى تعترى فكرنا الدينى الوضعى الذى لا يسائل ذاته، وتاريخه وأفكاره المذهبية ومدارسها بالمنهج التاريخي، والرؤى الشجاعة، والنزعة التجديدية، والاجتهادات الرصينة والمبدعة التى تدرس الآخر فكرًا وتاريخًا كأحد المكونات الكبرى فى خرائط عالمنا السياسية والدينية والفلسفية والثقافية.

ثمة غياب لبعض فكرنا الدينى الوضعى عن الدرس المقارن فى الأديان وسوسيولوجياتها وتاريخها وعقائدها ومذاهبها وتراثاتها على تعددها، على نحو يساعد على تحفيز فكرنا على الاجتهاد، وإنتاج أفكار جديدة فى الفقه وعلم الكلام والتفسير والتاريخ الإسلامي.

التجديد والإصلاح لن يتم من خلال التربص والبحث عن بعض النقائص الوضعية فى مقاربات بعض المؤسسين، ولا من خلال السجالات الصاخبة، واللغة الاتهامية والقدحية، وإنما من خلال أعمال المناهج التاريخية والسوسيولوجية والسياسية الموضوعية.

ثمة حاجة موضوعية وملحة لرجل دين عصرى مواكب لتحولات عالمنا ومجتمعنا ولا يكتفى بتكفير الآراء المخالفة له حتى وأن بدت جريئة، وإنما من خلال الدرس النقدى لها والحوار الموضوعى والاحترام المتبادل.

لا إصلاح دينى دون إصلاح بنية العقل الديني، والتكوين المعرفى المتعدد لرجل الدين، لأن تجديد الفكر الدينى أحد مداخله التعاون بين رجل دين عصري، ومثقف حديث من هنا نبدأ تجديد الفكر والخطابات الدينية! هيا إلى العمل!