منى غانم

من نافل القول أن الحرب في سورية بدلت في التحالفات الدولية وغيرت في البديهيات السياسية التي حكمت العالم بعد الحرب العالمية الثانية. بيد أن أزمة النظام العالمي أعمق بكثير من القضية السورية، إذ شكل توسع العولمة الاقتصادية مع بقاء حدود الدول ثابتة تحدياً كبيراً رافقته أزمة اقتصادية عالمية في ٢٠٠٨، مما لعب دوراً مهماً في الضغط لتغيير قواعد اللعبة التي تتحكم بمفاصل السياسة العالمية.

حُدد الخطر الأكبر الذي يهدد العالم على لسان ثعلب الديبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر بأنه صدام محتمل بين دول إقليمية لا تتوافق مع بعضها في نظرتها الى طريقة إدارة العالم فيما تتشابك مصالحها في شكل كبير. الأمر الذي بدا جلياً في الأزمة السورية التي لم يكفِ التوافق الروسي الأميركي لحلها، كما عجز مجلس الأمن عن إيجاد حل لهذه الصراعات الإقليمية من خلال آليات الفيتو المعتمدة. وشكل غياب الدول الإقليمية المعنية بالشأن السوري عن مقاعد مجلس الأمن معضلة حقيقية لهذه الدول، الأمر الذي دفع الرئيس أردوغان للاحتجاج علناً على هذا الأمر أكثر من مرة.

شكلت العوامل السابقة مجتمعة ضرورة العمل، لتفادي أخطار محتملة وإعادة ترتيب النظام العالمي، على خلق اتفاقات بين الدول الإقليمية لتشيكل وحدات إقليمية تنسيقية لحماية مصالحها في شكل مشترك من خلال تشكيل كانتونات محلية تخضع لهذه الدول مجتمعة.

ستشكل هذه الوحدات الإقليمية حجر أساس بناء النظام العالمي الجديد، وتعد المنطقة العربية مناسبة لتجريب هذه المنهجية وفق رأي كيسنجر، كون حدود الدول فيها، وفقاً له، قد حددت في شكل وقتي بعد الحرب العالمية الثانية وفقاً لمصالح الدول الغربية المنتصرة، وبالتالي يمكن تغيرها اليوم وفق انزياحات تحقق المصالح الدولية الحالية. التجربة، من ثم، ستبدأ من سورية، لكنها بالتأكيد، إن نجحت، فستمتد إلى العراق ومصر وشمال أفريقيا واليمن، وقد تصل إلى كوريا الشمالية.

ومفاوضات الآستانة لم تأت بمعزل عن القرار الأممي ٢٢٥٤، بل إنها إحدى أدواته التنفيذية على المستوى الإقليمي، وذلك بعد أن اكتمل الاتفاق الدولي الروسي -الأميركي الذي تجسد بوقف إطلاق نار بين الدولتين، وقد تم اعتماد القرار ٢٢٥٤ من جانب مجلس الأمن في نهاية ٢٠١٥. ولا تختص الآستانة بالمفاوضات على كل الأراضي السورية، بل فقط بالأراضي التي تقع غرب الفرات بعد أن أُقرت مناطق شرق الفرات مناطق نفوذ أميركي بالمطلق. ومن هنا كان غياب الفصائل الكردية السورية عن الآستانة واقتصار الوجود الأميركي فيها على صفة المراقب.

قامت الآستانة على فكرة بناء التوافقات التدريجية على تلك الأراضي السورية التي لا تقع تحت النفوذ الأميركي، من خلال توأمة تركية - روسية محلية سورية كمرحلة أولى، وفي شكل اغتراف البقع الجغرافية في شكل ثنائي ومتوازٍ من جانب تركيا وروسيا، فكانت داريا مقابل جرابلس وحلب مقابل الباب، بالتزامن ومن دون أي تدخل من الأمم المتحدة.

وحققت الآستانة ٤ نقلة نوعية ببناء التوافقات الإقليمية، فانتقلت التفاهمات الإقليمية من مرحلة ثنائيات المناطق إلى رباعيات المناطق. إذ تم التوافق على المقترح الروسي بإنشاء أربع مناطق آمنة سميت مناطق منخفضة التوتر. ومن نافل القول إن اتفاق القرى الأربع بين قطر وإيران ساهم في شكل كبير في التمهيد لقبول المقترح الروسي، إذ لا يمكن إنشاء هذه المناطق المنخفضة التوتر، بخاصة في ادلب، من دون حل معضلة الوجود الشيعي في الفوعة وكفريا. كذلك وفي يوم تنفيذ اتفاق القرى الأربع، أعلن وزير الخارجية القطري من موسكو دعم بلده لمسار الآستانه على رغم عدم مشاركته فيها، كذلك أقر دور إيران دولةً ضامنة ورفعت الولايات المتحدة المستوى الديبلوماسي لممثليها.

لعبت الآستانة دوراً مهماً في فصل المعارضة المعتدلة عن جبهة النصرة. فبعد الاجتماع الأول لآستانة التهمت النصرة عدداً من الفصائل المسلحة التي شاركت فيها، وانقسمت حركة أحرار الشام بانضمام جزء مهم منها إلى النصرة. أما الآستانة ٤، فسبقتها مواجهات عنيفة في الغوطة بين جيش الإسلام وفيلق الرحمن وهيئة تحرير الشام (النصرة)، كما تم تثبيت القوى الرئيسة في المعارضة المسلحة بخمس هي: جيش الإسلام، فيلق الشام، درع الفرات، أحرار الشام التي انضمت للمرة الأولى، والجبهة الجنوبية.

أغلب الظن أن دور الآستانة لن يقتصر على المسار العسكري، بل ستعمل الدول الضامنة على تطوير المسار السياسي بحيث يتم إخراج الحل السياسي ليُقر إما في جنيف أو على الأغلب في مجلس الأمن، ليحدَّد بذلك دور جديد لهذا المجلس بإقرار اتفاقات إقليمية.

وبذلك يكون قطار التغير في العالم قد انطلق على حساب دم السوريين وفقدانهم وطنهم ودولتهم، وقد يطال التغير كل الدول الإقليمية التي طالبت بتغيير النظام السوري، أما نحن فلا نملك إلا أن نقول وداعاً لسورية التي عرفناها ونستعد لنظام عالمي جديد نأمل بأن يكون فيه للإنسان قيمة.


* عضو مجلس إدارة «مركز بناء السلام والديموقراطية» (Bridge) السوري