محمد السعيد إدريس

تنفس كثير من الفرنسيين الصعداء بعد أن أعلن عن فوز مرشح «الوسط - المستقل» إيمانويل ماكرون مساء الأحد الماضي (14/5/2017) برئاسة فرنسا على منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان زعيمة حزب «الجبهة الوطنية»، لكن هذا الفوز رغم أهميته الكبيرة بالنسبة لفرنسا وبالنسبة لأوروبا ومستقبل الاتحاد الأوروبي، لكنه في الواقع فوز مفعم بالثغرات من منظور مدى قدرته على استعادة فرنسا لنفسها وإرساء قواعد حكم جديدة مستقرة خلافاً لتلك القواعد التي ثار عليها الشعب الفرنسي في جولة الانتخابات الرئاسية الأولى التي أجريت يوم الأحد (30-4-2017)، وأسقط فيها عمداً كل رموزها من قادة مؤسسة الحكم سواء كانوا من اليمين الديجولي أو من اليسار الاشتراكي.

صحيح أن ماكرون فاز بنسبة كبيرة قادرة على تمكينه من أن يحكم فرنسا بقدر عال من الثقة؛ حيث حصل على 66,1% من إجمالي الأصوات الصحيحة التي شاركت في الاقتراع، في حين حصلت منافسته مارين لوبان على 33,9%، لكن في المقابل هناك ثلث الفرنسيين، الذين لهم حق الاقتراع تعمدوا عدم المشاركة، ما يعني أنهم لا يؤيدون أياً من المرشحين وافتقدوا الثقة الكافية للتصويت لأي منهما، وهي نسبة عالية جداً، فقد امتنع 25,4% ممن لهم حق التصويت عن الإدلاء بأصواتهم، ووضع 8,6% من المقترعين أوراقاً بيضاء، رغم ذلك فإن كلمة «لا» كانت واضحة جداً بل وصارخة، في إشارة تقول إن الشعب الفرنسي وجد نفسه فجأة أمام واقع أليم سبق أن عاشه قبل حوالي ستة أشهر الشعب الأمريكي في انتخاباته الرئاسية وهو واقع الاختيار بين السيئ والأسوأ.

لقد عاش الفرنسيون الحالة نفسها، الاختيار بين مرشح من خارج مؤسسة الحكم ليست له أية خبرة، وليس لديه إلا إعلان التمرد على مؤسسة الحكم البالية، حديث السن (39 عاماً) وبين مرشحة متطرفة تثير الفزع على مستقبل فرنسا، لكنها الأكثر جدية في الدعوة للتخلص من تقاليد الحكم الفرنسي ومؤسسته، تماماً مثلما كان على الأمريكيين أن يختاروا بين هيلاري كلينتون التي تمثل مؤسسة الحكم التي جرى تجريحها وإثبات فسادها على لسان المرشح المنافس، وبين دونالد ترامب الذي لا يعرف شيئاً عن السياسة والحكم.

ويبدو أن ماكرون كان على دراية بحقيقة الواقع الذي يحيط بفوزه الانتخابي لذلك بادر بإطلاق مجموعة من الشعارات المعبرة التي أراد بها أن يستعيد ثقة الفرنسيين في مستقبل بلدهم وشاركه في ذلك الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته فرانسوا هولاند. 

فعقب إعلان فوزه ألقى ماكرون خطاباً حماسياً على أنصاره المحتشدين أمام متحف اللوفر بباريس حدد فيه الخطوط العريضة التي سيحكم بها فرنسا في شعارات براقة قال فيها «سأحارب الانقسام الذي نواجهه والذي يؤثر فينا جميعاً». 

هذه هي المهمة الأولى والأساسية التي عليه أن يجد لها الحلول. ففرنسا منقسمة الآن وغير متوحدة التوجه بعد معركة انتخابية مزقت ما تبقى من روابط الفرنسيين مع نظامهم السياسي والطبقة الحاكمة التي نالها من التشويه الكثير. بعدها قال مكرراً ذات المعنى «سأعمل على تعزيز التضامن بين كل الفرنسيين لضمان وحدة الأمة، وسأركز كل جهدي على تحقيق أمانيكم وتطلعاتكم». 

وكان حريصاً على أن يستعيد ثقة الفرنسيين في المستقبل عندما قال «أمامنا واجب إزاء بلادنا ونحن ورثة أمة عظيمة وتاريخ عظيم»، لكن أهم رسالة تخص أولويات الحكم بالنسبة له كانت قوله: «سأدافع عن فرنسا ومصالحها الحيوية وعن أوروبا ومصيرها المشترك». 

هنا وضع يديه على أهم أولوياته، وعلى المهمة التي اختاره الشعب من أجلها أي إعادة توثيق روابط فرنسا مع الاتحاد الأوروبي، ودعم مسيرة هذا الاتحاد والحيلولة دون انهياره، على العكس من المعركة القاسية التي خاضتها منافسته مارين لوبان ضد الاتحاد الأوروبي وعلاقة فرنسا به، وهي المعركة التي كانت فاصلة بينها وبين الحصول على ثقة الفرنسيين وجعلت الأغلبية تصوت لماكرون، وهذا ما حرص الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته فرانسوا هولاند على تأكيده في بيان كان حريصاً أن يقول فيه إنه «اتصل بماكرون وزير الاقتصاد السابق في حكومته ليهنئه» معتبراً أن «فوزه الكبير يؤكد أن الأغلبية الكبيرة جداً من مواطنينا الفرنسيين أرادوا التوحد حول قيم الجمهورية، وإظهار ارتباطهم بالاتحاد الأوروبي».

رغم أهمية هذين الهدفين فإنهما لا يمثلان علاجاً ناجعاً لأزمات المجتمع السياسي الفرنسي وليس فقط النظام السياسي هناك الآن قوتين تصويتيتين كبيرتين لم تصوتا لماكرون تبلغ أكثر من 30% فهم اعترضوا عليه كما اعترضوا على لوبان، وهناك ما يقرب من 30% من القوة التصويتية الذين صوتوا لصالح لوبان لهم رؤية معاكسة لمشروع ماكرون وسيعملون ضده، عليه أن يبتدع رؤى سياسية واقتصادية جديدة لاجتذابهم، وعليه أن يدرك حقيقتين مهمتين وهو يفكر في ذلك: الأولى أن معظم الذين صوتوا له كان تأييدهم له نابعاً من خوفهم على مستقبل الاقتصاد الفرنسي وبالتحديد على مدخراتهم في حالة الانسحاب من منطقة اليورو أكثر من تأييدهم لشخصه، والثانية، أن الانتخابات التشريعية الشهر القادم هي التي ستقرر مستقبله السياسي وهي التي ستقول هل سيستطيع حكم فرنسا وتحقيق مشروعه السياسي أم لا.