سليم نصار

لم تكن رسالة التأييد التي بعث بها الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما الى مرشح الرئاسة الفرنسية ايمانويل ماكرون أكثر من دعم معنوي ظن أنه سيؤثر في شعبية زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن. والسبب أن اوباما كان يرى في شعارات زعيمة «الجبهة الوطنية» نسخة فرنسية منقولة عن دونالد ترامب المطالب بإبعاد مواطني ثماني دول إسلامية عن الولايات المتحدة. وقد دفعه هذا التصور الى تأييد لوبن، كونها تمثل الخط السياسي المتطرف الداعي الى طرد أعداء البلد.

وهكذا انتقلت معركة أميركا الانتخابية الى أوروبا بواسطة ماكرون ولوبن. وفي هذا السياق، لا بد من التذكير بأن زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن كانت قد زارت موسكو وقابلت الرئيس فلاديمير بوتين. ومع أن الكرملين ظل متكتماً على محادثاتهما، إلا أن الرئيس باح بعبارة واحدة مفادها: «نحن لا نتدخل في انتخابات فرنسا».

وكان بهذه الجملة المقتضبة يريد الإيحاء بأن القرصنة الالكترونية الروسية التي مورست خلال الانتخابات الأميركية لن تتكرر!

ولكن مثل هذا التعهد قيل أيضاً على لسان بوتين خلال الانتخابات الأميركية. ثم تبين بعد حين أن تلك الضمانة غير مضمونة بدليل أن شركة يابانية، متخصصة في حقل الالكترونيات وجمع المعلومات، هي التي أعلنت عن اكتشاف عملية القرصنة الروسية. وذكرت الشركة أيضاً أن اعتداء مشابهاً استهدف السنة الماضية لجنة الحزب الديموقراطي الأميركي، بغرض التأثير في الحملة الانتخابية التي تقودها هيلاري كلينتون.

وتردد في حينه أن بوتين حرص على دعم المرشح الجمهوري دونالد ترامب، لأن كلينتون أثناء وجودها في الخارجية تصدت لطموحاته في القرم واوكرانيا وسائر الدول المتاخمة لحدود روسيا. وكررت مؤخراً قناعتها بأن قيام موسكو بقرصنة بريد حملتها الانتخابية تسبب جزئياً في خسارتها الانتخابات لمصلحة دونالد ترامب.

القضاء الفرنسي فتح تحقيقاً الأسبوع الماضي بعد نشر آلاف الوثائق الداخلية العائدة لفريق حملة المرشح الوسطي ايمانويل ماكرون على الانترنت. وأكد الرئيس فرانسوا هولاند الخبر الذي أوردته «وكالة الصحافة الفرنسية» حول المعلومات الخاطئة التي استهدفت حملة ماكرون.

ومع موجة الاضطراب والبلبلة التي أحدثتها موسكو في كل من الولايات المتحدة وفرنسا، يبرز سؤال محير خلاصته: إذا كان الغرض من الهجمات الالكترونية ضد هيلاري كلينتون واضحاً من حيث أهدافه وغاياته... فما هو هدف الرئيس بوتين من وراء دعمه نجاح زعيمة «الجبهة الوطنية» مارين لوبن؟!

عن هذا السؤال أجاب ماكرون في مقابلة مع قناة «بي. أف. ام» بإعلانه أنه سيبدأ أول زياراته الخارجية بألمانيا.

ولكن، ما هو الخطأ في ذلك إذا كان الرئيس فرانسوا هولاند قد باشر أيضاً جولاته الخارجية بزيارة ألمانيا، ومثله فعل سلفه نيكولا ساركوزي؟

الخطأ يكمن في حسابات الرئيس بوتين الذي راهن على تفكك الاتحاد الأوروبي، وعلى التيار الذي تقوده تيريزا ماي في بريطانيا. أي التيار الذي أوشك على إنجاح «حزب الحرية» المتطرف في انتخابات الرئاسة النمسوية... وعلى وصول «حزب الحرية» في الانتخابات العامة التي أجريت في هولندا.

ويعتقد بوتين أن تفكك الاتحاد الأوروبي يقود تلقائياً الى تفكك الحلف الأطلسي الذي يحاصر روسيا، ويمنع تمدد نفوذها باتجاه دول أوروبا الشرقية.

وإذا كان ماكرون قد وعد بتدشين أولى محطات زياراته الخارجية في ألمانيا، فإن المستشارة الألمانية انغيلا مركل كانت أول مَنْ أعلن عن تمنياتها بفوز رئيس فرنسي قوي هو ايمانويل ماكرون.

ويبدو أن مارين لوبن كانت تخشى من تعاون هذا الثنائي (ألمانيا - فرنسا) أكثر من خشية بوتين. والدليل على ذلك أنها افتتحت المناظرة التلفزيونية الأخيرة مع منافسها ماكرون بوصفه: «إنه مرشح البورصات وأسواق المال... الزاحف دائماً على ركبتيه أمام المستشارة الألمانية».

ومن المؤكد أنها توقعت ارتفاع أسهمها من طريق الاستفزاز واستخدام لغة التهديد والوعيد، مقلدة بذلك مثلها الأعلى ترامب مع هيلاري كلينتون. ولكن الأعصاب الهادئة التي قابل بها ماكرون عبارات التشهير والتهجم أعطته لدى الناخبين أصواتاً إضافية خصوصاً بين النخب السياسية، وأصحاب النفوذ وصانعي الرأي العام.

يتوقع المحللون الفرنسيون أن تكون زيارة ماكرون لألمانيا ناجحة من الناحيتين السياسية والاقتصادية. وبما أنه ينشط بعكس توجه بريطانيا، فإنه عازم على تقوية الحلف الأطلسي داخل ما وصفه بـ «أوروبا الموحدة». والثابت أن زيارته السابقة لبرلين عبّدت الطريق مع انغيلا مركل، لأن تجعل من ألمانيا وفرنسا المحورين الأساسيين في المشروع الذي سيعرض على سائر أعضاء الاتحاد الأوروبي.

ويقضي هذا المشروع بإعادة توزيع مسؤوليات دول الحلف الأطلسي التي تضاءل نفوذها في الشرق الأوسط وشمال افريقيا. وعليه، يرى ماكرون أن بوتين استغل مبدأ محاربة الإرهاب كي يستعيد حضور روسيا العسكري في سورية. وكافأه بشار الأسد على مبادرة إنقاذه من براثن المعارضة، الأمر الذي استغله بوتين لإنشاء قواعد بحرية وبرية.

عقب إعلان فوز ايمانويل ماكرون برئاسة فرنسا، واجهت منافسته مارين لوبن هذه الانتكاسة السياسية بهدوء وابتسامة عريضة. ووقفت أمام أنصارها لترفع من معنوياتهم، وتؤكد لهم أن هناك 11 مليون فرنسي اقترعوا لمصلحتها، وأن هذا الحزب الذي أسسه والدها سنة 1972 سيتحول الى حزب المعارضة. وقالت إنها حريصة على تغيير اسم الحزب لكي ينسجم مع تطلعات الشبان الذين يدينون بولائهم لفرنسا وليس لأي بلد آخر. وكررت في مناسبة أخرى برنامجها القائم على طرد 11 ألف مهاجر اتهموا بحمل أفكار متطرفة وارتكاب أعمال إرهابية. كذلك أكدت وعدها بإجبار الحكومة على إعادة كل سجين غريب الى بلاده حيث يكمل مدة العقوبة. ولم تنسَ لوبن أن تجدد تأييدها للرئيسين الأميركي ترامب والروسي بوتين. كما لم تنس أن تخصّ بانتقاداتها اللاذعة انغيلا مركل، محذرة من سطوتها على رئيس لم يبلغ، في رأيها، سن الرشد بعد (39 سنة).

وحقيقة الأمر أن عمر الرئيس الفرنسي كان موضع تندر واستغراب، كونه يمثل أول رئيس بهذه السن يفوز بالرئاسة خلال الجمهورية الخامسة. وهو الرئيس الثامن لهذه الجمهورية التي سيحكمها طوال خمس سنوات قابلة للتجديد.

صحف عديدة ذكرت أن نابليون بونابرت تولى الحكم في سن مبكرة - أقل من 39 سنة - ولكن عملية توارث الحكم لدى هذه الأسرة انتهت مع نابليون الثالث (1808-1873). لهذا، وصفه محازبوه بأنه سيكون «نابليون الرابع» الذي يشهر سيف التأديب ضد «الثورة» التي أعلنتها منافسته مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن!

والثابت أن غالبية الفرنسيين من أصول جزائرية أو مغربية أو من دول المشرق العربي، صوتوا بكثافة لماكرون. وتناولتهم مارين لوبن بلسانها اللاذع، وانتقدت النجم السابق للمنتخب الفرنسي ومدرب نادي ريال مدريد، زين الدين زيدان. كل هذا لأنه دعا المقترعين الى تجنب التصويت للوبن. وهذا ما فعله مع والدها الذي نافس جاك شيراك في دورة 2002.

وعلقت لوبن على دعوة زيدان بالقول: إنه خائف على الثروة التي جمعها. لذلك فهو يحضّ الناخبين للتصويت لماكرون كونه يحمي الأغنياء من دفع الضرائب. والمؤكد أن لوبن انتقت زيدان من بين آلاف العرب الذين صوتوا ضدها باعتباره يمثل شريحة كبيرة من الجزائريين - الفرنسيين، أو من العرب الذين يشكلون خمسة في المئة من عدد الناخبين.

ولكن المرشح المستقل ايمانويل ماكرون رفض استخدام موضوع المهاجرين المجنسين كمادة معادية للأجانب. وشرح موقفه من هذه المسألة الحساسة أثناء جولته الانتخابية في منطقة بيكاردي. وقال إن الثقافة الفرنسية عملت على صهر العديد من الشخصيات التي استمالها مناخ الحرية والمساواة من أمثال: الكاتب ألكسندر دوماس والرسام بابلو بيكاسو ومارك شاغال وأماديو موديغلياني. هؤلاء جميعهم ولدوا خارج فرنسا، ولكنهم سرعان ما تحولوا الى رموز لثقافتها الغنية.

ومثل هذا الوصف ينطبق على الشاعر اللبناني الأصل جورج شحادة والكاتب أمين رشدي معلوف، عضو الأكاديمية الفرنسية، إضافة الى عشرات المؤلفين والمصرفيين والموسيقيين الناجحين.

ومع أن طموحات ايمانويل ماكرون السياسية لم تظهر إلا قبل ثلاث سنوات، لكنه في الوقت ذاته استخدم دوره في وزارة الاقتصاد لإقامة علاقات متينة مع شخصيات أوروبية وعربية. وقد التقى أثناء زيارته بيروت في الشتاء الماضي عدداً من المسؤولين بينهم: الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري. كذلك زار بكركي وأحد المخيمات. وقبل عودته الى باريس، أقام على شرفه صديقه من عالم المصارف، جان اميل رياشي، مأدبة عشاء حضرها ديبلوماسيون ورجال أعمال. ومن بين الأصدقاء من اللبنانيين الذين عرفهم الرئيس الفرنسي أثناء عمله في المصارف، اسمان ذكرتهما الصحف هما: رود هندي وبرنارد جوزيف مراد.

كذلك قامت مارين لوبن بزيارة بيروت على أمل استمالة الناخبين من أصول لبنانية. ولكنها اصطدمت بعقدة شعاراتها، عندما رفضت أن تغطي رأسها أثناء زيارتها مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان.

تؤكد الصحف الفرنسية أن ماكرون ينتظر خوض معارك جانبية ممثلة بحركات معارضة بينها: الاشتراكيون واليمين، وفرنسا العاصية، والجبهة الوطنية. ولكن الانتخابات التشريعية المقبلة هي التي ستحدد طبيعة المرحلة، وتفرز عناصر الحركة المطلوبة لتشكيل حزب جديد يكون رئيسه الرئيس الجديد!