عبد الله بن خالد بن سعود الكبير

بدا واضحاً منذ فترة أن نهاية سيطرة التنظيم الإرهابي الداعشي على أراضيه في كل من العراق وسوريا باتت مسألة وقت. فبحسب أحدث إحصائيات التحالف الدولي، خسر التنظيم نحو 63 في المائة من أراضيه في العراق، و35 في المائة من أراضيه في سوريا منذ ذروة توسعه في صيف 2014. كما واكب ذلك انكماش كبير بأكثر من النصف في مدخولات التنظيم المالية من نحو المليار و900 مليون دولار في 2014 إلى 870 مليون دولار كحد أقصى في 2016، وذلك بحسب دراسة صدرت فبراير (شباط) الماضي عن المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي بلندن.
إلا أن النجاح في إزاحة هذا التنظيم من معاقل سيطرته، متى ما تم ذلك، لن يعني بأي حال نهاية هذا التنظيم وخطورته، فالأفكار المتطرفة التي يدعو لها لا تحتاج لمناطق وأراضٍ لتعيش فيها، بل تحتاج لظروف ومناخات عامة تقتات عليها ومن خلالها. وهذا يؤكد ضرورة وأولوية القضاء على الظروف والعوامل المسببة لظهور هكذا تنظيمات، وتفشّي الأفكار المتطرفة، وبالأخص الاختلال الأمني والفراغ السياسي في بعض دول المنطقة، والسياسات الطائفية الجائرة أو التوسعية في بعضها الآخر. الأكيد على كل حال أن الزخم والوهج الذي حظي به التنظيم -خصوصاً في عامي 2013 و2014 - الذي واكب توسعاته العسكرية على الأرض أصبح من الماضي.
الشاغل الأكبر لكثير من المراقبين المختصّين، وكذلك الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في كثير من دول العالم، يكمن في الآلاف ممن التحقوا بالتنظيم خلال السنوات القليلة الماضية من مختلف أنحاء العالم. هناك، تشرّبت هذه المجاميع الآيديولوجية الحدّية المتطرفة وتمرّست على استخدام السلاح وفنون القتال. يبقى السؤال الذي يجب التنبّه له: ما الأثر المتوقع للسقوط المرتقب لـ«الخلافة» المزعومة على هؤلاء؟
هناك عدة احتمالات لمستقبل من اصطلح على تسميتهم «المقاتلين الأجانب» (أي من غير السوريين والعراقيين): بعضهم سيبقى في العراق وسوريا ويلجأ لشن هجمات إرهابية على طريقة حرب العصابات في محاولة لإعادة ما خسره التنظيم، أو سينضم لإحدى الجماعات الإرهابية الأخرى هناك. البعض الآخر سينطلق بحثاً عن مناطق صراع أخرى في مناطق أو «دول فاشلة» تنشط فيها أفرع التنظيم. أما المجموعة الثالثة فهم الذين سيحاولون العودة إلى بلدانهم ودولهم الأم، وهؤلاء هم من سيشكلون مصدر الحذر والقلق الأكبر لأجهزة مكافحة الإرهاب في الغرب والشرق.
هنا يجب التفرقة بين صنفين من العائدين: أولئك الذين زالت غشاوة وهمهم، وانكشف لهم ضلال وزيف شعارات تنظيمهم ويعودون محبطين أو تائبين، وأولئك الذين يعودون لغرض التجنيد، وإحياء الخلايا النائمة، ومواصلة إرهابهم في الداخل. بينما يشكّل الصنف الثاني الهاجس الأكبر والتهديد الحقيقي للدول. ويعدّ الصنف الأول فرصة من الممكن استغلالها في سبيل مجابهة الآيديولوجية المتطرفة؛ والسبب في ذلك أن الجماعات الإرهابية منذ «القاعدة» في ثمانينات القرن الماضي وحتى «داعش» اليوم، لم تدّخر جهداً في محاولة القدح والانتقاص من صدقية وسمعة العلماء الربّانيين ممن تطلق عليهم مسمّيات انتقاصية مثل: «علماء السلطان» و«علماء السوء»؛ وذلك من أجل إسقاطهم من أعين الشباب، ومن ثم الاستئثار بالتأثير عليهم. هذه الاستراتيجية خلقت جيلاً من المنتمين والمتعاطفين مع هذه الجماعات لم يعد يلقي بالاً لفتاوى وتوجيهات العلماء من خارج ما يراه هو - زوراً - بأنه «التيار الجهادي».
لذا، فإن شهادات ومراجعات من كانوا من أبناء هذا التيار، إن تم استغلالها وتوظيفها بالشكل الصحيح، قد تحمل وزناً أكبر من ناحية التأثير والنتيجة في الفئة المستهدفة، وتساهم مساهمة فاعلة كإحدى الاستراتيجيات التي تستهدف مجابهة هذا الفكر المغالي الضال والمنحرف. التحدّي الحقيقي يكمن في التفريق بين هذين الفريقين، ومعرفة الدوافع الحقيقية والقناعات، وتحديد مدى الخطر الذي يشكله كل عائد؛ هذا على افتراض قدرة الأجهزة الأمنية في الدول الأم من الإمساك برعاياها العائدين من مناطق الصراع تلك.
هناك قضيتان أيضاً لا تقلان خطورة عن قضية «المقاتلين الأجانب» - إن لم تكن أخطر على المدى الطويل - وعلى الرغم من ذلك لم تحظيا بالدرجة نفسها من الاهتمام. القضية الأولى هي «المقاتلون غير الأجانب» (أي العراقيين والسوريين) في صفوف هذا التنظيم، وهم يشكّلون النسبة الأكبر في صفوفه بفارق كبير. في دراسة نشرت في فبراير الماضي وعكفت على حصر جميع العمليات الانتحارية التي أعلن عنها تنظيم داعش خلال سنة من بداية ديسمبر (كانون الأول) 2015 وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وجدت أن نحو 87 في المائة من مجموع الـ923 عملية انتحارية خلال ذلك العام تمت في العراق وسوريا، وأن 20 في المائة فقط من مرتكبي تلك العمليات كانوا «أجانب»، (بمعنى أن الأغلبية الساحقة كانوا من أهل المنطقة أو البلد الذي تمت فيه العملية).
من الخطأ في عالم اليوم المترابط، الظن بأن هذه مشكلة تختص بالعراق وسوريا فقط، فترك محاضن هذا الفكر الخبيث تنشط في تلك الدول سيمتد ليهدد دول الإقليم ومن ثم العالم أجمع، وقد فعل. لا بد من العمل لإيجاد صيغة وطنية جامعة تنهي المعاناة والانقسام الطائفي في العراق، ويمكن من خلالها كسب أبنائه السنة، وتحييد «داعش» وغيره من التنظيمات التي تستغل السياسات الطائفية، بل تعمل على إشعالها ونفخ النار فيها؛ لإبراز نفسها كالملجأ والمنقذ الأوحد. أما في سوريا فالوضع أعقد. ولكن لا يمكن البدء بالحديث عن حل سياسي للأزمة هناك، قبل الاتفاق على رحيل الأسد (المتسبب الأول وصاحب اليد الطولى في نشوئها، بل وداعم الإرهاب فيها لتحسين موقفه دولياً، وأحد أهم أسباب جاذبية واستمرار الخطاب المتطرّف).
أما القضية الثانية فهي تتعلق بـ«القاعدة» وأفرعه المنتشرة، وهذا برأيي هو المهدد الأكبر على المدى الطويل. لقد استفاد «القاعدة» بشكل كبير من عاملين وجيّرهما لصالحه في محاولته الاستقطاب والتموضع داخل المجتمعات التي تنشط فيه: ثورات «الربيع العربي» وبروز «داعش» بتشدّده الحدّي وعنفه الوحشي. كلا العاملين خلقت لهما الظروف الملائمة للتمدّد والانتشار، والظهور بمظهر الاعتدال والوسطية (في داخل تيار متطرّف ككل) إذا ما قورن بـ«داعش». هنا أيضاً تجدر الإشارة إلى أن استراتيجية «القاعدة» في أعقاب الربيع العربي أظهرت نوعاً من البراغماتية في سبيل كسب التعاطف والدعم الشعبي في مناطق نشاطه. فعلى عكس «داعش»، لا يتوانى «القاعدة» عن التحالف مع المخالف مذهبياً وفكرياً في سبيل الوصول للهدف الموحد. وإن كان هذا ليس بجديد عليه، فتحالفه المصلحي مع إيران يقارب الربع قرن الآن.
ومع تشديد الخناق على «داعش» في العراق وسوريا، أشار نائب الرئيس العراقي إياد علاوي مؤخراً إلى أن محادثات تجري حالياً بين «داعش» و«القاعدة» لتحالف محتمل بين التنظيمين الإرهابيين. أرى شخصياً أن تحالفاً من هذا النوع على مستوى التنظيمين يظل مستبعداً، إلا أنه من غير المستغرب أن يلجأ «داعش» تحت ضغط الحصار لـ«هيئة تحرير الشام» (القاعدة) طلباً للملجأ والعون. وهذا أيضاً يشير إلى أن ضعف وسقوط «داعش» المحتمل سيزيد من قوة وجاذبية «القاعدة». الحديث هنا يطول، ولعلنا نتوسّع أكثر في مقال مقبل.. . .