هشام النجار

الأسبوع الفائت شهد جملة تراجعات لقادة الإسلام السياسي؛ جماعة الإخوان تعرض التخلى عن عودة مرسي، وأحد المنافسين على رئاسة الحزب التابع للجماعة الإسلامية إحدى أهم حلفاء الإخوان يقول بعد كل ما حدث “لسنا فى عباءة الإخوان إنما فى عباءة الأمة” زاعمًا حرصه على إعلاء المصلحة الوطنية. 

أين إذن موقع القضية الكبرى التى كانت عنوانًا للاعتصامات والمظاهرات والتفجيرات والاغتيالات والمواجهات المسلحة طوال سنوات، وهى القصاص للشهداء؟ 

كانت فقط غطاء للتحصل على بعض المكاسب السياسية طوال سنوات، وأريقت خلالها دماء أخرى، بينما تتوارى القضية الآن ولا ينطق بها أحد الداعين للعودة. 

جماعة الإخوان لا تريد فقدان موقعها فى صدارة المعارضة السياسية الإسلامية لمصلحة حزب النور بعد أن خسرت موقعها فى السلطة، وهذا هو التحليل المتفائل، لكن من يعرف الجماعة جيدًا يعى أن عينها على انتخابات الرئاسة المقبلة، التى تراها فرصة أخيرة لحل أزمتها المستعصية بعد أن استنفدت كل السبل. 

ما ذنبُ الأتباع الذين بايعوا قيادات غامضة، تمامًا كما فى الصدام الأول وما ترتب عليه من تبعات جسيمة، بسبب منشورات القيادة الهاربة بالإسكندرية التى كانت تكفر حركة الجيش وتشحن للثورة والتمرد ولم يراعوا دماء أتباعهم الذين يخضعون دون مراجعة. 

لم يحدث أن أطلعوهم على ما عندهم يومًا، ولم نرصد علامة بارزة ونموذجاً مكررا فى العلاقة بين القادة الغامضين والأتباع السُذج سوى الضرر الذى يلحق بالقاعدة العريضة للتنظيم بسبب الاستخفاف بالأرواح والمصائر والأوطان. 

فى الاعتصامات والتجمعات عوام وخلق كثيرون عاجزون عن فهم أبعاد القضايا، والرغبة فى الحشد مررت كل الخطايا، ولذلك بقى هذا الغموض – الذى تحدث عنه المستشار البشرى- من عهد البنا إلى اليوم؛ فهناك خطر عندما يفهم العوام كل شيء. 

لم يقل أحد للحشود وقتها إنها دولة ومؤسسات عسكرية ومدنية وليست تيارًا سياسيًا أو حزبًا يُراد منافسته فلم يعد الصراع بين تيارات وأحزاب، إنما دولة اسمها الإخوان بهيكلها ونظامها الصارم ومؤسساتها التى صيغت على مثال مؤسسات الدولة فمكتب الإرشاد بمثابة مجلس الوزراء، ومجلس شورى الجماعة هو البرلمان، ومكاتب الجماعة الإدارية بمثابة المحافظات، والمناطق تنطبق حدودها مع الدوائر الإدارية الانتخابية بحيث صار التنظيم دولة بإزاء الدولة، حتى إذا احتاج التنظيم وقت احتدام الصراع لجيش وجهاز أمنى يحميه أنشأته «لجان الحراك المسلح»، فسعوا على مدى أعوام لإسقاط الدولة لتحل دولة أخرى محلها، فهل وعى الأتباع مدى عبثية ما يزجون فيه وجنونه؟. 

فى فيلم «ياماكازي» يقول أحدهم وهو يطارد أطفالًا أبرياء يحاولون إنقاذ رفيق لهم يعانى أزمة قلبية «نحن أسمنت فهل يفكر الأسمنت؟»، الآن فقط بدأ يفكر الأسمنت ويبدى بعض المرونة بعد أن انهارت التنظيمات أو تكاد وفقد قادتها القدرة على التواصل مع الجماهير. 

الخلل البنيوى فى نظرنا كان أشد الانحرافات التى أدت لهدر طاقات الشباب، فأشكال الوعى السياسى عند النخبة قاصرة لذلك عجزت عن تجاوز مواطن الضعف التنظيمى وفشلت فى مسايرة المستجدات والتحرك نحو المستقبل. 

عقول قادة تلك الجماعات لا تحسن التعامل مع الواقع بمتغيراته المتلاحقة يبحثون عن أمجاد على حساب دماء الآلاف، مادام الشباب لديهم الحماسة وعلى استعداد للتضحية، ولم تكن نيات الغالبية خالصة لإعلاء شأن دين أو دفع مظالم إنما طمعًا فى الغنيمة أو الملك وهم أول من يعلم أن حضورًا كهذا لم يكن مفضيًا إلى إيجاد بيئة سياسية تحفظ فيها حقوق المواطنة وتعزز فيها التجربة الديمقراطية، بل تجهضها وتحولها إلى صراعات طائفية ودينية. 

والشباب الأتباع صنفان؛ من دُعوا من دون توقع وإحاطة وأُلْزِموا دون ميل سابق من أن يحملوا وزر فعل لم يتمثلوه بعد، وقد أُخِذوا بصدمات الوقائع ومعظمهم يعيش فى ذهول فهم لا يدركون طبيعة الأفعال وخلفياتها وأهدافها وما وراء ردود الأفعال من حكمة، وآخرون مجندون تراجعات الإخوان وحلفائهم الآن التى تأتى بعد فوات الأوان تبحث عن حل لأزمة التنظيمات وقياداتها فى السجون والهاربين، فما معنى هذه التنازلات ولماذا لم يقدموها قبل تدهور الأوضاع وسقوط المزيد من الضحايا وتعريض أمن مصر القومى للخطر وتغذية نفوذ التكفيريين المسلحين؟ والسؤال الأهم: أين حديثهم الآن عن القصاص وحق الشهداء؟؟ 

أحد شباب الإخوان المحبوسين ضمن قضية كتائب حلوان بعث برسالة يطالب قيادته بالتراجع خطوات لإخراج الشباب من السجون وقال لهم لو كان البنا حيًا لفعلها، وصاحبنا هذا شاهد على أن غالبية المنتمين للجماعة لا يعرفونها ولا يفهمون قادتها، فهم سيتراجعون لكن خطتهم أولًا العودة للسلطة، فى مسرحية لسارتر عندما يكلف الحزب الشيوعى الفرنسى أحد كوادره باغتيال زعيم الحزب الاشتراكى فى سياق خطة للاستيلاء على السلطة وما صاحب ذلك من تصوير لرئيس البلاد كطاغية سفاح، وينفذ الشاب مهمته ويقبض عليه ويصدر ضده حكم بالمؤبد. 

يفاجأ بعد خروجه من السجن أن الحزب الشيوعى قد قرر انتهاج السياسة نفسها التى انتهجها الزعيم الاشتراكى الذى قتله بعد أن تطورت الآراء وتبدلت المصالح. 

خرج الثائر القاتل بعد ثلاثين عامًا، ليجد تنظيمه المعارض قد تولى السلطة وعندها أخرجوه من السجن، وفى إحدى الجولات يفاجأ بتمثال للطاغية الذى قتله قبل عقود يتوسط أحد الميادين، فسأل رفاقه فى ذهول وهم من حرضوه على اغتياله لفساده، فأجابوه بأن السياسة تتطلب ذلك!. 

لم يجد اختلافًا بينهم وبين الطاغية الذى قتله، وحينما سألوه عن المنصب الذى يريده قال مُحبطًا “لم أعد صالحًا للاستعمال”. 

إنها تلخص حال جماعة الإخوان وحلفائها مع أتباعهم بعد التراجع، وعنوان المسرحية كان “الأيدى القذرة”، ولا عجب فالمصالح الدنيئة تقتضى ذلك.