سلمان الدوسري

كثير هم رؤساء التحرير، والصحافيون أيضاً، وما أكثر كتاب الأعمدة، لكن نادرين أولئك الذين كانت لهم رؤية واستطاعوا أن يستشرفوا المستقبل ويقرأوه جيداً، ويواجهوا النيران في بداية مشوارهم، ثم بعد جهد جهيد يمهدوا الطريق لغيرهم. لم يمر على السعودية صحافي أو رئيس تحرير أو كاتب كما هو الراحل الكبير تركي السديري، ليس لمهنيته فحسب أو قيادته لصحيفة كبرى مثل «الرياض»، ولا حتى لعمادته للصحافة والصحافيين في السعودية ودول الخليج عقوداً طويلة، بل لأنه من أوائل من تصدى لمظاهر التشدد بقلمه وبعمله الصحافي، وتكريس صحيفته بأن يكون الوطن أولاً، عندما كان مجرد التلميح وانتقاد المتطرفين يدخلك في نفق مظلم لا نهاية له، ويفتح باباً للمعارك ليس سهلاً الخروج منها، وحتى بعدما بدأ رحلته في نقد مظاهر التشدد، وتسمية الأشياء باسمها، فعل ذلك عن وعي وقناعة ووطنية حيرت كل خصومه. لم يتجاوز ولم يشمت ولم يستفز القراء. كانت العقلانية طريقه والمنطق أسلوبه، وهكذا استمر في مشواره سنوات طوالا قبل أن يفتح الطريق على مصراعيه لبقية وسائل الإعلام وقادة الرأي لمواصلة تنوير المجتمع.
تركي السديري صنع من «الرياض» الصحيفة هرماً صحافياً فريداً فكراً وممارسة، وتمكن خلال رحلته الطويلة، التي بلغت 41 عاماً، من تحويل «الرياض» إلى الصحيفة الرسمية لبلاده دون أن يطلب منه أحد ذلك، ودون أن يتبرع هو بالتصريح بأنها كذلك. كانت «الرياض» في عهد تركي السديري تتبوأ مكانة لم يستطع أحد أن ينتزعها بسهولة، حتى أصبحت وسائل الإعلام العربية والدولية تعتبر ما ينشر في الصحيفة، وعلى الأخص كلمتها، يعبر عن السياسة الرسمية للدولة، وقد فعل تركي ذلك بحس وطني عالٍ مكّنه من تجاوز كل الحساسيات التي يمكن أن تعقد مسيرة الصحيفة، واستطاع أن يتخطى كل تلك الصعوبات، مرسخاً اسم «الرياض» كوسيلة إعلام رصينة تتصدر المشهد الإعلامي السعودي، وكانت رؤيته التي خطها منذ أكثر من عقود أربعة هي من أفرزت هذا النجاح المطلق الذي يسجل باسمه، ولا أظن أحداً استطاع أن يكرر ما فعله الراحل.
في ديسمبر (كانون الأول) 2011 وفي أعقاب تعييني رئيساً لتحرير صحيفة «الاقتصادية» بشهرين، زرت الراحل في مكتبه في صحيفة «الرياض» باعتباره عميد الصحافيين وكبيرهم، وبرغم الفارق بينه وبيني، سناً ومقاماً، إلا أنه أصر على أن ينزل معي من مكتبه في الدور الثاني إلى خارج الصحيفة عند خروجي، وباءت كل محاولاتي بالفشل في إثنائه عن ذلك، خلالها ونحن نمشي سألته هل توصيني بشيء؟ فقال نعم، إذا واجهتك أي صعوبات أو مشاكل داخل الصحيفة أو خارجها أو مع الجهات الرسمية لا تتردد في الاتصال بي، ابتسمت وشكرت، ثم أردف قائلاً: «هذه ليست مجاملة يا سلمان، بل أطلب منك ذلك»، قبل أن يختم بعبارة قالها لي حينها، ثم أصبح يرددها لاحقاً كلما قابلته: «يا ابني أنا بجانبك، متى ما احتجت لي تجدني». وبالفعل كلما تواصلت معه لم يخب ظني، ناصحاً تارة، وموجهاً تارة، ومصححاً تارة ثالثة، ثم يكرر وصيته ذاتها التي فعلاً لم تكن مجاملة بقدر ما كان يعنيها. وفي مارس (آذار) 2013 كتب مقالاً في زاويته الشهيرة «لقاء» بعنوان «تجاهل... وجهل»، وقد تفضل علي كثيراً بالإشارة لي في ثنايا المقال بكلمات أسعدتني، وأتمنى أن أكون كذلك، وأعتز أنها تخرج من قامة بحجم الراحل الكبير، فهاتفته أشكره وأقدر له موقفه هذا، وأيضاً كرر كلماته نفسها: «هل نسيت يا ابني وصيتي؟ أنا بجانبك ومتى ما احتجت لي تجدني».
ابنك لم ينس أيها الوالد والأستاذ والمعلم، لكن ها أنت ترحل وتتركنا، فما أكثر حاجتنا لك وما أندر من هم مثلك.. .