إدريس الدريس

أستاذي دعني أقل إنك قد فاجأتني وفجعتني برحيلك السريع وبصراحة فإنني لم أتوقع أن ترحل هكذا بكل هذا الهدوء وبكل هذا الصمت وكل هذا الوقار.

صحيح أننا كنا نعلم أنك لست على ما يرام وأن صحتك قد خذلتك فأقعدتك، لكننا عرفناك طوال عقود مضت تتوعك لعدة أيام بسبب ضغوطات العمل وإرهاقات الجريدة لكنك لا تلبث أن تتعافى وتسترد همتك لتعود إلى جريدتك تجوب أسيابها وتصعد طوابقها وتقتحم دهاليزها فتراقب الصفحات وتراجع الماكيتات وتعدل البروفات وتشطب وتضيف ثم تعود لتذهب وتجيء حتى إذا اختمرت عندك فكرة «لقاء» جلست في أقرب مكتب واتكأت على «الماصة» وسحبت الورق ومضيت تكتب.

أستاذنا كنت قد عودتنا على أن تتوعك حيناً يسيراً من الدهر لكنك تعود دائماً لتكون حاضراً في كل محفل لنباهي بك عند كل العرب الآخرين الذين يحسبون أنهم لوحدهم يحسنون صنعاً. أفلا يرون كيف أنك صنعت نفسك من الصفر لتكون قيمة أولى واسماً بارزاً وفعلاً ناجزاً في الصحافة العربية؟

وكيف لا يرون أنك قد صنعت جريدة من خوصة صغيرة فجعلتها نخلة سامقة؟!

سامحنا إذا تداعينا في الأيام القادمة لتكريمك وتثمين إنجازاتك فليس غريباً علينا هذا السلوك وليس جديدا لدينا تسويف المبادرات وتأخير الاستحقاقات فنحن نقصر دائماً في حق الأحياء ثم نسرف في تعويض تقصيرنا لكن بعد الفوات.

لكن ربما عليك أيضاً أيها المعلم أن تعذرنا لأننا تعودنا منك أن تعود بعد الذهاب وأن تقوم بعد القعاد وأن تتعافى بعد المرض، كيف لا؟ وقد عودتنا أن تنهض من الكبوات والهزائم والوعكات منتصراً ومتفوقاً ومجالداً ومعانداً ومنافساً لا تلين له قناة.

يا أبا عبدالله..

سامحنا إذا خذلناك وكنا نحسبك خذلتنا حين أيقنا مثل كل مرة أنك تذهب لتعود وهذه المرة أدركنا ولكن متأخراً جداً أنك قد سئمت تكاليف الصحافة وإرهاصاتها ومشقاتها وكيدها وكدها ولؤمها وعشقها ونكدها وإدمانها وأنك تغادرها أخيراً بلا رجعة وأنك ترحل بلا عودة وأنك تمضي إلى الراحة الأبدية.

سامحني فقد كنت أحسبني في سعة من الوقت لأعتذر عندك عن كل سوء فهم أو تقصير.

ها أنت تستريح وأنت في حضرة رب رحيم وفي جوار الكريم.

غفر الله لي ولك وأحسن مثوانا أجمعين.