علي نون

هناك شيء غريب إسمه «وزارة الخارجية السورية». وهذا الشيء الغريب والهيولي أصدر شيئاً أغرب منه هو بيان نفي لما «سُمّي محرقة في سجن صيدنايا»!

الوزارة في واقع الحال، هي مثل النفي الصادر باسمها. أمران لا صلة لهما بالحقائق السورية. بل هما تعبيران من تعابير كثيرة تستخدم من دون مضمون في سلطة آل الأسد: حكومة! مجلس شعب! قضاء! انتخابات! سيادة! جيش وطني! مكافحة إرهاب! فصل سلطات! نقابات! هيئات رقابية! الخ.

وتلك مقوّمات ومكوّنات مكمّلة لبعضها البعض. ولم يكن ممكناً لتلك السلطة البقاء والاستمرار من دون أخذها كلها والإضافة عليها. بل إن قانون النفي الذي تعتمده هو في صلب عدّتها الوجودية: سلطة أخذت الدولة ونفت أسسها وأصولها وفروعها!.. وأحاديّتها نفت التعددية الاجتماعية الطائفية والعِرقية! وحزبها نفى الحياة السياسية وطمسَها تحت التراب. ومذهبيّتها نفت المكوّن الأكثري الآخر، إلا بالجزء الذي خدمَها وقايضته بـ«الإبقاء» عليه تحت سقفها! ومركزيّتها نفت أي قيمة وظيفية لمفهوم توزُّع السلطات أو الفصل بينها! رئيسها هو رئيس كلّ شيء وكل سوري وكل وظيفة! وأجهزته هي كذلك تماماً: أجهزة خاصة به وليست بالعموم، أي بضمان بقائه سيداً على (هؤلاء) وبحمايته منهم!

.. ومن أبواب النفي، تعديل المفاهيم العامة بها ينقّيها من الالتباس: فوق كل شكل سلطوي ديكوري هناك قيّم (أمني في الإجمال) مربوط مباشرة بالرأس. وقراراته في العادة لا تُردّ ولا تُناقش ولا تُجادَل! والحدود في كل إطار وظيفي، كبيراً كان أو صغيراً، مدنياً أو عسكرياً، يجب على الدوام، أن تبقى واضحة وضوح الشمس: المؤسسات «الدستورية» واجهة تجميليّة لفراغ قميء. وأول استطراد لعناصر تلك الواجهة هو آخر استطراد! والخطأ في التشخيص، وفي وزن الذات والصلاحيات، هو خطيئة تحمل صاحبها الى جهنّم الحمراء، من دون تردّد!

والأمن في هذه المعادلة صنو القداسة. وهذا رديف لتعويذة عنق يعلّقها كل عضو أسدي «أصيل» في رقبته. ثم يروح الى التعوّد على متطلباتها، وتنميتها و«تحديثها» باستمرار بما يسمح بردّها الى سويّة الوحوش الكواسر وآليات «عملها»، باعتبار ذلك طقساً حتمياً تفرضه دواعي الوجود، وليس أقل من ذلك!.

«سلطة آل الأسد» هي التعبير الأكثر تكثيفاً في عالم اليوم، لمعادلة النفي والنكران. وللقدرة على تحويل تلك المعادلة الى نسق سلطوي صافٍ وتام، لا حاجة لأهله، الى تقديم أي إضافات أو شروحات أو تبريرات. هي في أصلها وفصلها «سلطة» نافية لما قبلها ولما بعدها. حطّمت الماضي والحاضر وتحرص بدأب خلاصي على تحطيم الآتي. وضمان بقاء سوريا وأهلها في زاوية مقطوعة (منفية!) عن الزمن وأحواله، داخلياً وخارجياً. وعن اقترابها في يوم ما قريب، من احتمال عودتها من غربتها! ومن موتها الأسطوري المديد، ومن خرابها الأبوكاليبسي.

سلطة تنفي الحياة من أساسها. وتعتبر الأنسنة تخريفاً لا يليق سوى بالضعفاء. وبديهيّات العيش، ترف لا تستحقه إلا النخبة المصطفاة (حتى في الداخل المذهبي!) وتنظر الى مصطلحات الحرية ومفاهيم الحداثة وتداول السلطة والنظم الديموقراطية باعتبارها كلها في أحسن الأحوال، سيناريو لعالم افتراضي غير موجود، ولا يمكن حتى الاستشراف باحتمال نزوله على الأرض من سمائه السابعة!

سلطة مثل هذه لا تُعيَّر بمحرقة في سجن صيدنايا، وهي التي جعلت من سوريا كلها، محرقة فحسب!