حسام عيتاني

في مثل هذه الأيام قبل خمسين عاماً، كانت القوات المصرية تقوم بتحركات مرتجلة في شبه جزيرة سيناء تتعارض مع الخطة الدفاعية المقرة مسبقاً. تغيير مواقع ألوية وتقدم نحو خطوط جديدة وانسحابات من نقاط دفاعية ثابتة، في إطار أوامر القيادة العليا الصادرة قبل أيام بدفع قسم مهم من الجيش المصري إلى سيناء.

أسباب هذه التحركات وغيرها من الإجراءات التي اتخذتها القوات العربية عشية حرب حزيران (يونيو) 1967 لم تتضح بعد على رغم مساهمة الفوضى التي أحدثتها في الوصول إلى الهزيمة المدوية في الحرب التي لم تستغرق عملياً سوى يوم واحد، أخذاً في الاعتبار صدور أمر الانسحاب الاستراتيجي من شبه الجزيرة في السادس من حزيران بعد 24 ساعة من تدمير إسرائيل الطيران المصري على الأرض.

تَذَكُّر هزيمة الـ67، هو تذكر أسئلة لم تجد إجابات شافية وما زالت تحول دون بناء رواية عربية متماسكة لما حدث. لماذا قدم السوفيات معلومات كاذبة عن حشود إسرائيلية قرب الحدود السورية؟ لماذا استجاب العرب لهذه المعلومات على رغم تأكد القيادة المصرية من عدم صحتها؟ من كان يتولى إدارة الجيش المصري بين إغلاق مضائق تيران وبدء القتال؟ لماذا صدر بيان الانسحاب من الجولان قبل سقوط بلدة القنيطرة؟ 

هذه الأسئلة وغيرها الكثير متروكة للتكهنات والاتهامات السياسية بسبب إصرار السلطات العربية على عدم الكشف عن الوثائق الرسمية التي في حوزتها عن يوميات الحرب والفترة التي سبقتها. ولا تأتي أهمية الحرب من نتائجها الكارثية على المستوى العسكري فحسب، بل أيضاً من تشكيلها دليلاً على الأسلوب الذي تعاملت به السلطات العربية مع شعوبها والذي ما زال مستمراً حتى اليوم.

وليس مستغرباً أن تقع دعوات عدد من المؤرخين العرب، من بينهم المؤرخ المصري خالد فهمي، إلى الإفراج عن أرشيفات حرب حزيران (ما لم تكن الأرشيفات هذه قد تعرضت لتلف متعمد) على آذان صماء. فالسلطات تعلم مسبقاً أن مضمون الأرشيفات سيشكل مادة دسمة لرسم صورة دقيقة عن انعدام كفاءتها وغياب جديتها في التعامل مع مسائل شديدة الخطورة مثل الحرب والعدوان الخارجي.

وفي مقابل رواية إسرائيلية كاملة عن الحرب، استخدمت في تدوينها وثائق وخرائط رسمية ومعلومات من هيئات الأركان والمؤسسات السياسية ذُكرت فيها حتى أسماء الجواسيس الإسرائيليين في الدول العربية، لا نجد في الجهة المقابلة إلا عدداً (ليس ضئيلاً) من كتب المذكرات والشهادات لأشخاص عايشوا تلك الأيام، تبقى على رغم أهميتها، وجهات نظر ذاتية يحاول فيها أصحابها الدفاع عن أنفسهم أو شرح أرائهم أو إلقاء مسؤولية الكارثة على سواهم باستخدام ما يتيسر لهم من معلومات حصلوا عليها بحكم مناصبهم وليست من الأرشيفات الرسمية.

والمسألة، على ما هو بيّن، لا تتعلق بهمّ محض أكاديمي لبناء رواية تاريخية دقيقة. بل بفكرة المعرفة بمعناها الواسع المرتبط بالسلطة وشرعيتها والحق في مساءلتها. وليس سراً أن السلطات العربية التي صنعت هزيمة حزيران وغيرها من النكبات والكوارث، فضلت اللجوء إلى التزوير والكذب الصريح على الخضوع للمحاسبة التي لا تمتلك آليات مستقلة عن السلطة الحاكمة. 

وليس سراً أيضاً أن الهزيمة المذكورة لو دُرست كما يجب وتحمل المسؤولون عنها ما يستحقون من عقوبات ضمن سياق عدالة مستندة إلى شرعية ذات قاعدة شعبية حقيقية، لما كنا وصلنا إلى هذه الهزائم اليومية في كل مجالات الحياة العامة.