نديم قطيش

كان انتخاب الجنرال ميشال عون رئيسًا للجمهورية، هو أول قرار سياسي كبير في لبنان يؤخذ خارج إرادة، وخلافًا لرغبة، رئيس مجلس النواب نبيه بري منذ انتفاضة 6 فبراير (شباط) عام 1984، التي قادها مع وليد بك جنبلاط في مواجهة النظام اللبناني. أما جنبلاط فقبل بانتخاب عون على مضض كثير. والمفارقة، أن قوة الدفع خلف انتخاب عون كانت القرار الثابت لـ«حزب الله» بترشيحه، ثم المناورة التي أقدم عليها رئيس الحكومة (الأسبق آنذاك) سعد الحريري.

لم تمر واقعة انتخاب عون عند بري مرور الكرام. فبمثل هذه الأحداث يؤرخ لبداية أدوار ونهاية أخرى، وهو من خبر البدايات والنهايات الكثيرة في تجربته منذ أن صعد نجمه السياسي بعد عام 1984. وهي واقعة تمتحن الأسس التي قام عليها تماسك ما يسمى الثنائي الشيعي، أي حركة أمل و«حزب الله».

دماء كثيرة أريقت قبل أن يصبح الثنائي الشيعي، حركة أمل بزعامة نبيه بري و«حزب الله» بزعامة حسن نصر الله، ثنائيًا. واحدة من أعنف جولات الحرب الأهلية اللبنانية خاضها الحزبان فيما بينهما، بين عامي 1985 و1988. آلاف الشباب الشيعة قتلوا في الصراع الذي جاء امتدادًا للصراع الإيراني - السوري على الإمساك بورقة جنوب لبنان، ولا سيما بعد استكمال إسرائيل انسحابها من معظم الأراضي التي احتلتها خلال اجتياح عام 1982، إلى منطقة الحزام الأمني التي ستنسحب إسرائيل منها لاحقًا عام 2000.

كما كان اقتتال أمل - «حزب الله»، امتدادًا للصراع الآيديولوجي والتنافس السياسي والمصلحي، بين إيران وسوريا حول توظيف لبنان في مشروع كل من الدولتين، وحول موقع فلسطين فيهما. ركزت سوريا عبر حركة أمل وحرب المخيمات عام 1985 على أولوية منع ولادة ياسر عرفات مجددًا، وعلى إعادة تشكيل النظام السياسي اللبناني. في حين كانت إيران مهتمة بتصدير نموذج الإسلام السياسي تحت يافطة فلسطين ومقاومة إسرائيل، فعارضت «مؤامرة» حرب المخيمات ودعمت الحركيين الإسلاميين من الشيخ السني سعيد شعبان في طرابلس إلى «حزب الله» في بيروت وضاحيتها الجنوبية؛ للتغطية على مشروعها المذهبي العميق،
وهو خلق محور شيعي من طهران إلى المتوسط عبر العراق ولبنان.

حاولت سوريا هدم النظام السياسي لبناء نظام سياسي بمواصفات دمشق، وكان نبيه بري في قلب المحاولة إلى جانب وليد جنبلاط وإيلي حبيقة، أبطال الاتفاق الثلاثي الموقع في دمشق نهاية عام 1985. وحاولت إيران هدم النظام السياسي اللبناني، عبر تصدير ثورتها، بديلاً عن تعثر التصدير إلى العراق، وخلق فضاٍء لمشروعها التوسعي الشيعي.

هذا الفارق العميق بين حركة أمل و«حزب الله»، كُمن تحت وطأة الإدارة السورية الإيرانية المشتركة لمصالح الدولتين، لكنه ظل يحكم وعيين مختلفين، لدى طرفي الثنائي الشيعي، تفجر بوضوح في لحظة انتخاب عون.

الوعي الشيعي الذي ينتمي إليه نبيه بري هو وعي مضاد للمارونية السياسية. وبري اليوم يخوض معركة منع ولادتها، ولو الجزئية، بعد أن فشل في منع وصول عون إلى الرئاسة. أما الوعي الشيعي لـ«حزب الله»، وتحديدًا منذ انتعاش المشروع التوسعي الإيراني في أعقاب جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وهجوم إيران في أفغانستان ولاحقًا العراق، فهو وعي مضاد للسنة ودورهم وقوتهم ونفوذهم. الوعي نفسه الذي قتل رفيق الحريري، وبه جوبهت الدول السنية الكبرى بعد حرب تموز 2006، وبه استخدم «حزب الله» سلاحه في الداخل اللبناني في 7 مايو (أيار) 2008. تجربة نبيه بري هي تجربة داخل النظام السياسي اللبناني. 

في حين أن تجربة «حزب الله» هي داخل فضاء الاشتباك المذهبي في المنطقة. ينظر نبيه بري إلى خريطة النظام السياسي اللبناني ومواقع الصلاحيات عليها، وينظر حسن نصر الله إلى خرائط الدول والكيانات والمذاهب.

لا يمكن للفارق أن يكون أكبر، وللوقائع أن تكون أكثر ظلمًا له. فسوريا التي لطالما لاذت به ولاذ بها انتهت، ولا عرب راغبون في مكافأته على نوايا مفترضة لديه، أو أنصاف مواقف يغشيها الالتباس. في حين أن «حزب الله» يحسب امتداده من أطراف الدنيا إلى أطرافها الأخرى شريكًا، ولو مأزومًا، للاعبين الكبار!

بإزاء هذا الواقع، يصّعد بري الاشتباك مع الرئيس عون، مدفوعًا بوعيه المضاد للمارونية السياسية، لكن أيضًا بهاجس أن يتجاوزه «حزب الله» في قانون الانتخاب بمثل ما تجاوزه في لحظة الانتخابات الرئاسية. الرجل مراوغ سياسي من الطراز الأول. لكن الفطنة وحدها لا تصنع الأقدار السياسية. ورياح الوقائع لا تهب مع اتجاه أشرعته.

ما يقدر عليه من أدوار لا يكفي. وما هو مطلوب منه، لا قدرة له عليه.
خسر ورقة المقاومة لصالح «حزب الله» منذ زمن طويل. ثم خسر ورقة سوريا التي حمته داخل النظام السياسي، وهو الآن يخسر توازنات النظام لصالح حسابات «حزب الله».

بقي له أن يكون مقتدى صدر لبنان. أي أن يكون صوت الشيعة العرب، الرافضين «للوكالة الخمينية» عليهم، والخارجين من عباءة المشروع المذهبي الإيراني إلى رحاب الدفاع عن الدولة الوطنية وصحتها سلامتها. لهذا الدور تعوزه الرغبة، والقدرة ويلوح أمامه سؤال العمر.