وسام سعادة


لم يكن السعي لتفادي الحرب، وتسوية أمر المشروع النووي الايراني بالطرق السلمية، هو الخطأ الذي ارتكبته ادارة الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما. هذا السعي بحد ذاته كان أمراً جيداً، وكان يمكنه ان يعود بالفائدة لكل ما يخدم تبريد الجبهات الساخنة في هذه المنطقة من العالم، وكل ما من شأنه الاقتراب من أحوال الاستقرار والانفتاح والازدهار .. هذا لو ترافق هذا المسعى بوعي أساسي لطبيعة المرحلة الانتقالية، المرحلة التي تبدأ بتوقيع ايران للاتفاق مع المجموعة الغربية، لكنها المرحلة التي تحتاج لسنوات طويلة، من اجل الوصول الى تسوية ايرانية غربية متكاملة.

بسبب استهانة ادارة اوباما بالضوابط والآليات التي ترتبط بهذه المرحلة الانتقالية، كانت استهانته نافرة اكثر ومزعجة اكثر، بالنسبة الى المشكلات الايرانية العربية المتفاقمة، بحيث ظهرت التسوية الاميركية الايرانية المرغوبة من اوباما، كما لو انها تقفز على المشكلات الايرانية العربية، وبالتالي على التسوية الايرانية العربية، سواء بالنسبة لسياسات ايران الاستفزازية بوجه دول مجلس التعاون الخليجي، او سياساتها الهيمنية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. 

المسعى الاساسي لاوباما - تغليب السلم على الحرب في منطق التعاطي مع ايران - ترافق اذا مع استهانتين. واحدة بالضوابط التي غيبها بالنسبة للمرحلة الانتقالية، الضوابط التي تمنع ايران من الاستثمار السريع لارهاصات رفع الحظر عنها من اجل توسيع نفوذها في البلدان العربية، او من اجل توسيع عملية محاصرة التيار الاصلاحي داخلها. وثانية، استهانة، بوجهة نظر الكتلة العربية في هذا الشرق، والتعامل مع هذه الكتلة كما لو ان العلاقات الاميركية والغربية معها ستتحول الى ثانوية كلما تطور التعاطي مع ايران. 

الاستهانة الثالثة تمثلت بعدم وضوح المآل النهائي لمشروع التسوية الاميركي الايراني. ان تصبح ايران واحدة من الدول الاسيوية ذات الاقتصاديات الناجحة والفاعلة، وتجربة حضارية مشرقة في هذا القرن، وقطب من ثلاثة - بالاضافة الى تركيا والكتلة العربية، في هذه المنطقة من العالم، فهذا شيء يفترض انه يختلف تماماً، ليس فقط عن منطق صناعة القنبلة النووية، بل ايضا عن الهوس بتكديس الترسانة الصاروخية وتمريرها الى حزب الله والحوثيين، وكل مشاريع تصدير الثورة، التي لم تفعل سوى تأجيج مناخات الفتنة والتعصب.

اياً كان الآتي بعد اوباما، فانه كان ملزما بتعديل هذا المسار. اذ ظهر بالمدة القياسية كارثية توقيع اتفاق مع طهران من دون ضوابط كافية، وضمانات لازمة، ومن دون رعاية ستاتيكو المنطقة، والانصات لوجهة نظر ومصالح الكتلة العربية، ومن دون السعي لفك الارتباط بين ايران وبين سوريا، من اجل تمكين مشروع التسوية السورية من ان يتأسس.

ودونالد ترامب كان في ايام حملته الرئاسية يزاوج بين الشدة تجاه طهران، وبين اللين تجاه النظام الاسدي في دمشق. انصار كثر للنظام الاسدي اعتقدوا انه «في جيبهم».

لم يكن ممكنا لترامب ان يستمر على هذا الاختلاف بين اللين هنا والشدة هناك، فيما ايران تحارب السوريين في سوريا. بسرعة قياسية، انتقل من اللين الى الاستهداف الصاروخي لقاعدة جوية تعود الى النظام الاسدي. لا يعني هذا ان كل حساباته تبدلت، ولا ان كل حساباته اتضحت، او اتضح اذا كانت لديه حسابات كافية، حول القضايا المتفجرة في المنطقة. 

بقي ان زيارته الى الرياض، في مستوياتها الثلاث، جاءت «تصحح» الى حد كبير مسار الادارة السابقة. اما المسار الجديد، فينبغي الانتظار فترة من الزمن كي يتضح اكثر، خصوصا في ظل المشكلة الداخلية التي تضغط على رئاسة ترامب. هل يمكن لترامب ان يتفلت من هذه المشكلة الداخلية بالتركيز اكثر على السياسة الخارجية، وتحديدا تجاه ايران وحلفائها؟ هذا احتمال قوي جدا، لكن ليس له وجهة تطبيقية واحدة. التعاطي معه الافضل ان يكون بمنطق كل يوم بيومه، ولبنانيا بمنطق عدم وضع البلد في «صدارة» جبهة المجابهات الاقليمية. لبنان مصلحة اكيدة في الوقوف الى جانب الكتلة العربية بازاء سياسات ايران التي يعاني منها لبنان قبل سواه، لكن له مصلحة اكيدة في الروية والحذر من كل مرحلة لم تتضح معالمها بما يكفي بعد. اساساً من قال انها «مرحلة جديدة»؟ حتى الآن، المراوحة ما زالت تسود كل جبهات الاستنزاف في المنطقة. 

نحن في وضع اقليمي غير متوازن ابداً، منذ الانقضاض الاسرائيلي على التسوية الهشة اساسا مع السلطة الفلسطينية، وبعدها بسنة الاحتلال الاميركي للعراق، ونجاح ايران في استثمار هذا الاحتلال لحسابها، وعمل النظام السوري على الاستثمار في النار المذهبية العراقية، في الاتجاهين، وصولا الى انفجار كل التناقضات المتراكمة في سوريا دفعة واحدة بوجهه، وعمل حزب الله على وراثة الوصاية السورية الآفلة في لبنان، ثم تدخله لنجدة النظام في سوريا، بوجه السوريين. في هكذا وضع غير متوازن اكثر فاكثر كان يمكن للاتفاق النووي الايراني الغربي ان يساهم في التوازن لو انه ربط التسوية الايرانية الغربية باصلاح جدي للعلاقات الايرانية العربية، ولو انه ربط التسويات مع ايران باجماع غربي جدي تجاه كل ما تقوم به حكومات اسرائيل العدوانية المتعاقبة منذ اغتيال اسحق رابين. هذا لم يحصل. حصل العكس، وادى هذا الى مزيد من انعدام التوازن، والى توسع الحروب المشتعلة، ومحاولة تخيير الشعوب بين مطرقة «داعش» وسدان «الحوثيين» و»الحشد الشعبي» وغاز السارين. 

اعادة التوازن الى هذه المنطقة من العالم له شروط عسيرة، منها ما هو سياسي وعسكري ومنها ما هو اقتصادي وثقافي. والصعوبة الاساسية ان هذا يفترض ان يحصل في وقت يبدو فيه الكوكب ككل متأرجحا، فاقداً للتوازن. رغم ذلك، شيء واحد وأساسي، يمكن التقاطه والتعويل عليه: المقاربة «الاوبامية» للملف الايراني صارت من الماضي.