عبد المنعم سعيد

أكتب هذا المقال صباح يوم الجمعة الماضي بينما تتأهب وفود كثيرة في عدد كبير من الدول للذهاب إلى الرياض، حيث تنعقد قمة أو قمم لم يسبق - فيما أعرف - أن انعقدت على هذا النحو من قبل. ما ذاع عن جدول الأعمال واللقاءات يوحي بـ3 نوعيات من الاجتماعات:

الأولى: ثنائية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية، والثانية: بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، والثالثة: بين الولايات المتحدة والدول الإسلامية. الثلاثة رغم أنها متتابعة، ولكل منها أولوياته في النقاش والأخذ والعطاء، فإنها أيضاً متداخلة. فالدول العربية على سبيل المثال هي الأخرى منتدى خاص؛ كما أن الدول الرئيسية سواء في العالم العربي أو العالم الإسلامي لدى كل منها علاقتها الخاصة مع المملكة التي توجد في مركز تلك الشبكة الكبيرة من العلاقات الاستراتيجية والحضارية والدينية أيضاً. ولكن الشكل وحده ليس هو الذي سيقرر كيف أن المناسبة كلها فريدة، فالمضمون لم يتكرر من قبل في ماضي العلاقات الدولية أو الإقليمية، فرغم أن قائمة الأعمال مزدحمة بالموضوعات بالفعل، وأن المشاركين في الاجتماع ربما يضيفون لهذه القائمة كل ما يهم بلادهم، فإن النقطة المحورية في اللقاءات كلها هي علاقة الدين الإسلامي والمسلمين بالعالم الذي نعيش فيه. العالم هنا تمثله الولايات المتحدة الأميركية بما لديها من قوة صلبة، وأخرى ناعمة، وشبكة علاقات اقتصادية وأمنية على كوكب الأرض وفي خارجه، ولا يوجد ما يماثلها دولة أخرى. والعالم الإسلامي تمثله دوله الرئيسية الحاملة لرسالة دينها، الذي يحاول الإرهابيون الوحشيون سرقته واستخدامه في إثارة الفوضى في العالم. صحيح أن في الدنيا مناطق متوترة أخرى (بحر الصين الجنوبي وكوريا الشمالية)؛ كما أن هناك دولاً تعاني من اهتزازات كبيرة (فنزويلا)؛ ولكن الشرق الأوسط والحرب ضد الإرهاب لا تزالان تمثلان مركز العلاقات الدولية في اللحظة الراهنة، وهذه العلاقات الدولية تكثفت لحظاتها في الاجتماعات التي جرت في الرياض.
لاحظ هنا أن الضيف الأميركي لم يكن يعرف جيداً لا المنطقة العربية، ولا الشرق الأوسط، إلا من خلال علاقات اقتصادية ظهرت في شكل ما عرف بأبراج «ترمب»؛ وخلال حملته الانتخابية لم يكن الرجل ودوداً لا مع العرب، ولا مع المسلمين في البداية، كما فعل مع المكسيكيين أو الأميركيين من أصول لاتينية.

ولكن الشهور الثلاثة الماضية شهدت نوعاً من التكيف والفهم لرئيس الولايات المتحدة الأميركية مع واقع الشرق الأوسط وتعقيداته. حدث ذلك نتيجة الزيارات المتعاقبة التي قام بها قادة عرب ومسلمون إلى واشنطن، حاملين معهم ثقل العالم العربي والإسلامي، سواء أكان أماكن مقدسة، أو من سكان بحضارتهم وتاريخهم، أو من علاقات ومصالح متشابكة مع الولايات المتحدة عبر العقود الماضية؛ أو أنها الدول التي تتحمل العبء الحقيقي للحرب ضد الإرهاب (95 في المائة من ضحايا الإرهاب من المسلمين). إن أي تحليل لمضمون كلمات وأحاديث الرئيس الأميركي سوف يفضيان إلى وجود خفوت كبير في خطابه السابق، واستعداد لتشبيك المصالح، وبيع السلاح، وتجميد عملية نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والمساهمة المباشرة الأكبر في الحرب ضد الإرهاب. هذه المتغيرات لم تكن لتحدث لولا الجهد الدبلوماسي والسياسي العربي، وخاصة دور المملكة العربية السعودية بما لها من ثقل إسلامي كموطن للحرمين الشريفين، ومصر بالدور الذي تقوم به في الحرب ضد الإرهاب، وقدرة ومبادرة في السعي نحو تجديد الفكر الديني من خلال مؤسسة الأزهر. والحقيقة هي أن تخصيص ترمب لزيارته الأولى خارج الولايات المتحدة، بحيث تشمل السعودية والسلطة الوطنية الفلسطينية والفاتيكان، وكذلك إسرائيل، هي تأكيد على رمزية العلاقة بين الديانات السماوية الثلاثة، وهي نظرة تخرج عما هو شائع في الولايات المتحدة من العلاقات المسيحية اليهودية الخاصة تحت رداء ما يسمى «التقاليد اليهودية المسيحية». قمة الرياض كانت الخطوة الأولى في العلاقات الدولية لإشهار المحتوى الروحي للديانات السماوية: «اليهودية والمسيحية والإسلام».
العلاقة بين الإسلام والعالم، بحيث تكون بناءة ومناهضة للعنف والإرهاب، هي جوهر لقاءات الرياض، ومثل هذا الجوهر يدخل في العلم من زاوية «الاستراتيجيات العليا» التي تستلزم استراتيجيات وخططاً أخرى لنقلها من مكانتها العليا لكي تعمل على الأرض. والعمل على الأرض قائم بالفعل بين الولايات المتحدة والدول العربية الإسلامية الحاضرة إلى اللقاء في الرياض، سواء كان ذلك في جبهة المواجهة مع إيران، أو محاربة الإرهاب، أو في السعي نحو تحقيق الاستقرار في منطقة أعيتها الحروب الأهلية والانقسامات الداخلية. هنا فإن اللقاءات بقدر ما هي فرصة للمراجعة والتقييم لما حدث، وأظنها بدأت مع اللقاءات الثنائية السابقة على مؤتمر الرياض، فإنها أيضاً تبدأ الطريق إلى إنهاء المهمة التي لا تقتصر على علاقة المسلمين بالعالم، وإنما تذهب إلى استعادة الاستقرار في المنطقة، وهو الأمر الذي لا يتحقق إلا من خلال استعادة «الدولة» لمكانتها، والأمن إلى الإقليم بأسره بالبحث عن نهاية للحرب الأهلية في سوريا، ووضع الصراع العربي - الإسرائيلي على طريق التسوية السياسية.
اجتماعات الرياض هكذا ليست نهاية طريق، أو تتويجاً لمسيرة سابقة، أو مجرد إحياء لعلاقات سابقة، وإنما هي بداية غير مسبوقة لطريق غير مسبوق. ليس سراً على أحد أن الدول الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط منشغلة إلى حد كبير بعمليات للإصلاح الداخلي، سواء أخذت اسم «رؤية 2030» كما في السعودية ومصر، أو أخذت أسماء أخرى في دول أخرى؛ والكل يعلم أن مثل هذه العملية ليس مقدراً لها النجاح إلا إذا أحاطت بها بيئة إقليمية ودولية تساعد على هذا البناء. وببساطة فإنه لا يوجد إصلاح أو بناء في بيئة الأمن فيها مهدد، والحروب الساخنة والباردة ذائعة؛ وعلى العكس فإن كل خطوة على طريق الاستقرار الإقليمي سوف تجعل البناء الداخلي ممكناً وواعداً. مفاتيح هذه الحالة تحدث عندما يتم وضع الحروب الرئيسية في المنطقة على طريق الشرعية، سواء في سوريا أو اليمن أو ليبيا؛ والأزمات الكبرى في المنطقة على طريق التسوية، كما هو الحال فيما يخص الصراع العربي - الإسرائيلي. وبقدر ما يبدو من طريقي الشرعية والتسوية صعباً ومعقداً، فإن هناك ثروة من القرارات والمبادرات الدولية التي يمكن الاستناد، وأحياناً الاحتكام، إليها. مؤتمر الرياض يبدو بما فيه من شكل ومحتوى كما لو كان إشارة البدء في مسيرة على الطريق، أو أنه إشعال لمحرك سيارة تعطلت طويلاً، وآن الأوان لها أن تنطلق. وعلى أي الأحوال، فإن نجاح المؤتمرات لا يكفي فيه حميمية اللقاء والاجتماعات، وإنما فيما يحدثه من زخم وعنفوان، بما يكفي للتغلب على عقبات ومعضلات تاريخية. وبصراحة لم يعد ممكناً لا للعالم ولا للمسلمين أن يضيعوا أوقاتاً إضافية!. . .