سمير عطا الله 

كتب اثنان من حملة الأقلام التي أُدمِنها، رسالتين متقاربتي الموعدين، إلى أمهما. رجلان تجاوزا عمراً معيناً، مدَّ الله في عمريهما، يتحولان أمام الأم إلى طفلين حانيين دامعين، لا شيء أهم عندهما من الخوف من فقدان حضورها وحنانها.
لا شيء. لذلك، حمل كل منهما قلمه وضمّه إلى قلبه، كما كانت الأم تضم الابن إلى قلبها. وكاد كلاهما، على بلاغته، يضعان للمقالين عنواناً طفولياً واحداً: ياما... أو يمّا.
غريب الإنسان أمام الأم. ذهبت مرة أعزي زميلاً عزيزاً في والدة زوجته، فقال في نوع من العفوية، إنها، رحمها الله، تجاوزت التسعين. فقلت له ليس للأم عمر، سوف تظل تُفتَقد بصفتها أماً ولو جاوزت القرن. يكتب زياد الدريس في قضايا السياسة والثقافة والأدب بكل معرفة وقوة. لكن ها هو يخاطب أمه مثل طفل ضائع يريد التمسك بطرف ثوبها. وينشئ داود الشريان مقاله كما يدير برامجه بلا عواطف ولا مواقف، ولكن ها هو يكتب في رثاء أمه بكل مشاعر الأرض. عندما كان نابليون أقوى رجل في العالم، قال إن «المرأة التي تهز السرير بيمينها، تهز العالم بيسارها». وعندما قمت بزيارة المنزل الذي أمضى فيه أيام المنفى في جزيرة ألبا الإيطالية، قال لنا الدليل إن هذا السرير هو السرير الذي أرسلته أم الإمبراطور خصيصاً من باريس خوفاً من أن يصعب عليه النوم في سرير غير سريره.
ما هو أرق ما قرأتَ عن حنان الأم؟ أنا شخصياً لم أعد أذكر. لكنني سوف أضع دوماً ما كتب زياد الدريس وداود الشريان بين الأكثر رقة. وقبل ذلك، كنت أعتقد أن أحداً لم يصل إلى المعلم الأسطى وحضرة عمدة العمداء.
ففي روايته «السكرية» لم تعد الأم تفكر سوى في ابنتها البالغة ستة عشر عاماً. وفي البيت راديو تجتمع حوله السيدات في ساعة معينة من المساء لسماع الأغاني القديمة واستعادة أصداء الصبا ومشاعر الامتلاء بالحياة و«يا عِشرة الماضي الجميل».
ولكنّ ثمة أمراً خطيراً: هذه الأغاني تبعث على الحزن، والأم تجزع أن ابنتها تجزع! يا سلام يا سي محفوظ. من مثلك يبحث في الإنسان عن مثل هذه الرقائق، أو بالأحرى من مثلك يمكن أن يعثر عليها؟ الأم تخاف على ابنتها من أغانيها... تريد أن تحميها حتى من مخاطر النغم، فإن وقعه يتغير بين الأعمار.. . .