علي بن حمد الخشيبان

لا أعرف كيف يمكنني فهم تلك التصريحات التي أتت من جارتنا القريبة لنا في كل شيء (دولة قطر)، ومنذ منتصف القرن الثامن عشر وبعد انفصالها عن البحرين وهي تعيش بسلام وأمن بعلاقات تاريخية مع جيرانها أبناء الخليج الذين يحيطون بها مثل سوار المعصم، كنت أتذكر تلك العلاقات التاريخية التي بدأت منذ عهد الملك عبدالعزيز الذي أرسل إلى قطر كل ما تحتاجه، ولعل الشيخ ابن مانع من أبرز من ذهبوا إلى هناك حيث رسخ النماذج الأولى للتعليم في قطر.

عندما أتذكر هذه العلاقة التاريخية أتساءل ما الذي يحدث لجارتنا الجزيرة؟ لقد أصبح السؤال ملحا حول تلك التغيرات التي طرأت في التوازن السياسي لهذا الجار منذ العام (1995م)، ما الدوافع التي غيرت هذا الاستقرار السياسي لدولة قطر التي عرفها العالم بشكل مختلف بعد منتصف التسعينيات الميلادية؟ وهذا يطرح سؤالا: ما الذي يمكن تفسيره في هذا التغير "لأن لا شيء يولد من لا شيء".

كما هو معروف أن التاريخ أكبر مرشد للبشرية ومعلم لها، والحكومات بطبيعتها يجب أن تدرك أن كل مسار تخطوه منطوٍ على المخاطر أيضا إذا لم يكن هناك توازن في تقدير هذه المخاطر، والحقيقة أن التصريحات التي استمعت إليها وصدرت من جارتنا الجزيرة لم تكن في اتجاهها السياسي الطبيعي متسقة مع واقع نرغب في أن نعيشه جميعا حيث الأمن والسلام.

الدول تعرف بإمكاناتها التاريخية ومساحاتها الجغرافية وحجم تركيبتها السكانية، وكلما كانت هذه الدول تدرك تلك الإمكانات، كلما كانت أكثر تعقلا وحكمة في السير نحو الاتجاه الصحيح في خدمة ذاتها، ولكن ذلك لا يمنع أيضا أن تمتلك الدول بدائل لهذه الإمكانات، ولكن الشرط الأساسي لهذه البدائل ليس المال إنما التوازن السياسي في السير وسط تلك الدول.

ليست السباحة ضد التيار هي النجاح لأنه في النهاية تيار لا يمكن مقاومته كلما اشتد المنحدر، ولكن النجاح في بناء شراكة قوية مع الأصدقاء التاريخيين وتوظيف الشراكات لتكون مصدراً مهما في بناء المستقبل..

ليست السباحة ضد التيار هي النجاح لأنه في النهاية تيار لا يمكن مقاومته كلما اشتد المنحدر، ولكن النجاح في بناء شراكة قوية مع الأصدقاء التاريخيين وتوظيف الشراكات لتكون مصدرا مهما في بناء المستقبل، لقد عمل (لي كوان) على بناء سنغافورة ليس بالسباحة ضد التيار العالمي، بل بالشراكة والتعاون مع الجميع القريب والبعيد، وإذا كانت الجارة الجزيرة تريد أن تكون كذلك فإن مثل هذه التصريحات لن تعدو كونها حملات سياسية تذوب سريعا وتنتهي لتبقى الحقيقة كما هي..! لأن التغيير الجوهري هو في الأفعال وتحقيق المصالح المشتركة وسط جيران يحيطون بك من كل جانب.

منذ زمن بعيد وأنا أتساءل عن تلك الاتجاهات السياسية التي تتخذها الجارة الجزيرة ولماذا كل هذا ولمن يوجه كل ذلك الضخ الإعلامي الكبير الذي تبثه الجارة الجزيرة إلى العالم من حولها؟ وعندما كانت كل دول الخليج تعاني من الإرهاب والتفجيرات كانت جارتنا الجزيرة بعيدة عن تلك الأحداث، وكانت تفتح أبوابها للجميع دون استثناء لتدرجهم في برامج إعلامية وأكاديمية لم يكن الهدف منها واضحا، ومع كل ذلك احترم الجيران جارتهم الجزيرة وتعاملوا بكل توازن معها ووقعت المعاهدات والعقود بينهم ولكن...!

أعتقد أن حجم الانفعالات في هذه التصريحات من الجارة الجزيرة لا يخدم المنطقة ولا جيرانها وقد يدفع إلى اتجاهات سلبية تنعكس على تلك الجارة التي يتمنى الجميع أن يكون نموذجها القادم الذي عليها أن تذهب إليه سنغافورة، وليس البحث عن كوبا ثانية في منطقة الخليج، فحتى كوبا اليوم أدركت أن الصوت السياسي لم يعد سوى حملات إعلامية ضررها أكبر من نفعها.

جارتنا الجزيرة عليها أن تدرك أن التصريحات لا تصنع الدول، وأن المثل العربي الأصيل يقول (ما حك جلدك مثل ظفرك)، كما أن أخطر موقف سياسي هو أن تتنازل الدول لتتبنى مواقف التنظيمات والأفراد، جارتنا الجزيرة مازال هناك المزيد من الفرص للعودة إلى حضن الجيران، ولكن يجب أن يكون ذلك قبل فوات الأوان.