هادي اليامي

أهم ما ميَّز المباحثات الاقتصادية بين البلدين، السعي الحثيث لتطبيق رؤية المملكة 2030، وظهر هذا بوضوح في الاتفاق على إنشاء مصانع عسكرية ومدنية في المملكة، لتوفير ما تم الاتفاق عليه

عاشت العاصمة الرياض، أوائل الأسبوع الجاري، أياما استثنائية، تمثلت في زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب وعدد من وزرائه، وأبرز رؤساء الشركات الأميركية الكبرى، كما استقبلت في ذات الوقت ملوك ورؤساء وقادة 55 دولة عربية وإسلامية، عقدوا قمتين مع الرئيس الأميركي خلاف القمة الرئيسية مع العاهل السعودي، تناولت جميعها سبل التصدي للتهديدات الإيرانية وتدخلات طهران في شؤون دول المنطقة العربية، وكيفية اجتثاث خطر التنظيمات الإرهابية التي صارت تهدد العالم بأسره، وفي مقدمتها تنظيما داعش والقاعدة. ولم تكن أم القضايا بالنسبة للمسلمين – قضية فلسطين – غائبة عن طاولة المفاوضات، بل كانت حاضرة وبقوة، باعتبارها الأزمة المحورية التي يستغلها المتطرفون لتجنيد الأتباع والتغرير بالبسطاء.

لم تكن القمتان اللتان عقدهما الرئيس ترمب مع قادة الدول الخليجية والعربية والإسلامية مجرد لقاءات شكلية، أو مباحثات تقليدية، وغلب عليهما الطابع الاستراتيجي، لتحقيق شراكة نوعية، ومنهج واضح لكيفية اجتثاث جذور التطرف ومنع الأسباب المتسببة فيه، والذرائع التي تؤدي إلى استمراره، فالجميع اتفق على أن الإرهاب لا دين له ولا وطن، وأن الإسلام بريء منه، وهذا ما أوضحه ترمب عندما أكد أن 90% من ضحايا الإرهاب من المسلمين.

الزيارة عموما اتسمت بالجانب العملي، ولم تستغرق كثيرا في الإجراءات البروتوكولية، فلم تكد تمض ساعات قلائل على وصول الضيف الكبير حتى انخرط الجميع في مباحثات مكثفة ونقاشات عميقة، ففيما كان خادم الحرمين الشريفين يبحث مع ضيفه الرؤية الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، كان المسؤولون الأمنيون يناقشون تأثير التدخلات الإيرانية في شؤون دول المنطقة، وتأجيج أوضاعها الأمنية عبر إذكاء النعرات الطائفية، واستغلال الأقليات ضد دولهم، وفي الجانب المقابل كانت هناك مباحثات تجارية واقتصادية على أرفع المستويات، ناقشت كيفية توطين التقنية المتطورة في المملكة وتعزيز الاستراتيجية الدفاعية للمملكة، وتحديث الاقتصاد السعودي، لذلك كان هناك تزامن في توقيع كافة الاتفاقيات التجارية والتفاهمات الأمنية. وكان خادم الحرمين الشريفين وضيفه الكبير حاضرين في تفاصيل كل ما تحقّق من إنجازات، ويشرفان على أدق تفاصيله، مما كان له أكبر الأثر في إنجاح المباحثات.

من أهم ما ميَّز المباحثات الاقتصادية بين البلدين، السعي الحثيث لتطبيق رؤية المملكة 2030، وظهر هذا بوضوح في الاتفاق على إنشاء مصانع عسكرية ومدنية في المملكة، لتوفير ما تم الاتفاق عليه، وبدلا من شراء مروحيات مقاتلة، أقر الجانبان بإمكانية تصنيعها وتجميعها في مصانع تقام داخل المملكة، بأيد سعودية وتقنية أميركية، وكذلك الأمر في ما يتعلق بمكونات الذخائر الذكية. 

وهذا التوجه كفيل بإيجاد عشرات الآلاف من الفرص الوظيفية المتميزة، إضافة إلى فتح آفاق جديدة للتصدير للدول الخارجية، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية. كذلك ركزت الاتفاقيات على جوانب توطين التقنية، وفتح مصانع لشركات كبرى، مثل IBM وجنرال إلكتريك، وهذا التوجه كفيل بتحويلنا من دول استهلاكية تعتمد على الآخرين، إلى دول منتجة تسهم في تطور الاقتصاد العالمي، وليس إفراطا في الأمل القول إن تلك الاتفاقيات تمثل أكبر خطوات توجُّه المملكة للحاق باقتصاد المعرفة ومسيرة التصنيع. 

أما الجانب الاستراتيجي في هذا الشأن فهو أن مفاوضات الطرفين سارت في اتجاه تمكين دول المنطقة من امتلاك أفضل الأسلحة والأدوات التي تمكنها من الدفاع عن نفسها بطريقة فعالة، إلى جانب تأكيد واشنطن التمسك بالتزاماتها العسكرية تجاهها.

أما فيما يتعلق بالهدف الرئيسي من الزيارة، وحتمية وضع حد لتدخلات إيران في شؤون دول الشرق الأوسط، والتسبب في اشتعال الأزمة في سورية، ووقوفها خلف المتمردين الحوثيين، وإمدادهم بالأسلحة والصواريخ، بما يهدد حركة التجارة العالمية في ممراتها الاستراتيجية، وزعزعة الأوضاع في العراق، فقد كانت كلمات الرئيس الأميركي واضحة في هذا الصدد، بأن وقت التجاوزات قد انتهى، وأنه لا مجال للمزيد من غض الطرف، وأن على طهران التقيد بالقانون الدولي، لأن العالم لن يتسامح مع أي تهديد لحركة الملاحة العالمية، وأكثر من أي وقت مضى كانت الرسالة السعودية تجاه النظام في طهران واضحة وحازمة، وكان وصف خادم الحرمين الشريفين لنظام الملالي بأنه «رأس حربة الإرهاب العالمي» إشارة إلى أن عهد التعامل بحزم وعزم مع هذا الطغمة قد حل، وأن أيام التغاضي وغض الطرف قد ولت، خاصة مع الإعلان عن تشكيل تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي، وأجزم أن طهران استوعبت رسالة القمة الإسلامية الأميركية، وأدركت مدى جديتها، وأن عليها البدء فوراً في سحب وتفكيك ميليشياتها العسكرية المنتشرة في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، ولترسل قمة الرياض درساً وتحذيراً في نفس الوقت مفاده «ما يصعب أخذه بالسياسة لا ينبغي السيطرة عليه بالإرهاب»!

وجدّد الطرفان الاتفاق على أن الإرهاب هو أكبر المشكلات التي يواجهها العالم الحديث، وأن مواجهته ينبغي أن تكون على أسس مدروسة وخطط علمية شاملة، تقوم على تجفيف مصادر تمويله، ومحاربة الفكر المتطرف، والقضاء على مسببات استمراره، ومواجهة الدول التي تدعمه، إضافة إلى تطوير آلية المواجهة الأمنية والعسكرية، لذلك اتفق قادة الدول العربية والإسلامية على تفعيل تبادل المعلومات، وزيادة التنسيق بين الأجهزة المختصة، وتقديم العون والدعم المطلوبين لأي دولة. وكان افتتاح المركز العالمي لمكافحة الفكر التطرف (اعتدال) في الرياض حدثا استثنائيا كبيرا، بحيث يتولى التنسيق بين الدول الإسلامية، بعد أن تم تزويده بإمكانات تقنية وبشرية هائلة.

الرياض نجحت بامتياز في تنظيم الحشد غير المسبوق، فلم تترك شيئا للصدفة، بدءا من جوانب التنظيم والاستقبال وإسكان الوفود وتسهيل حركتها، مرورا بتحديد الأجندة وتنظيم مواعيد الفعاليات، وانتهاء بالقمم والاتفاق على مخرجاتها، وهذا بطبيعة الحال لا يمكن أن يتأتى إلا بجهد جبار، بدأ قبل وقت كاف، شارك فيه كافة مسؤولي بلادنا وقيادتها الرشيدة، بدءا من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي ظل متابعا لكافة الفعاليات، وولي عهده، وولي ولي العهد، اللذين أشرفا على كل صغيرة وكبيرة، وبذلا من الجهد ما لا يمكن تصوره، ومرورا بالمسؤولين والوزراء الذين لم يدخروا وسعا في سبيل إنجاح الحدث الكبير، وتمتد قائمة التميز لتشمل حتى صغار الموظفين ورجال الأمن، الذين نجحوا في تنظيم الحدث الاستثنائي بدرجة من التميز أثارت الفخر، ودفعت الضيوف إلى الإشادة بما تحقق، وهو ما عبَّر عنه وزير التجارة الأميركي الذي أبدى إعجابه الشديد بالتنظيم الدقيق، ربما لأنه لم يكن يعلم أن إنسان هذه البلاد طُبع على الإبداع، واعتاد على التميز، ولا يحد سقف طموحه سوى السماء.