عمّار علي حسن

ليس الحادث الإرهابي الذي شهدته مدينة مانشستر البريطانية عشية يوم الثلاثاء الماضي هو الأول من نوعه الذي يقع في بريطانيا، ولكنه يبدو مختلفاً عن سابقيه من ثلاث زوايا: الأولى أن من تدور الشبهات والاحتمالات حول مسؤوليته عن الحادث هو تنظيم آخر يختلف عن تلك التنظيمات التي كانت تقف وراء سلسلة الحوادث التي ضربت بريطانيا منذ عام 2005 وحتى الآن. 

والثانية أننا أمام حادث مختلف في طريقة تنفيذه، إذ يتوافق مع الطريقة التي درج الإرهابيون على سلوكها في السنوات الأخيرة بعد أفول نجم «القاعدة» وظهور «داعش» التي هي الطور الأكثر توحشاً في الجماعات المتطرفة التي تؤمن بالعنف والدم، حتى لو أدى هذا إلى تفكك دول، وتشريد الملايين، وموت مئات الآلاف من البشر. فكل هؤلاء يجب أ ن يخضعوا، من وجهة نظر هذه الجماعة الإرهابية، إلى قانون «التوحش» الذي تؤمن به، وترى أنه الوسيلة المثلى لتحقيق أهدافها.

أما الثالثة فهي أن الحادث يأتي في وقت تستعد فيه بريطانيا لانتخابات مهمة، سيتحدد على إثرها مستقبلها، سواء ما يرتبط بالتزاماتها حيال الاتحاد الأوروبي بعدما صوتت أغلبية بسيطة لصالح الانفصال عنه، أو ما يتعلق بمنظومة القوانين التي تحكم علاقاتها بالآخرين، أو القيم التي ترسخت على مدار أكثر من 350 سنة منذ أن أُعلنت «الماجنا كارتا» التي مثلت أحد منطلقات العالم المعاصر في مجال الحقوق السياسية ومبدأ المواطنة، والتي تتهدد بفعل توجهات اليمين الجديد، الذي لم يتعزز نفوذه في بريطانيا وحدها وإنما أيضاً في سائر أوروبا.

ومن هنا لا يمكن فصل هذا الحادث المروع الذي أودي بحياة نحو 25 شخصاً وإصابة أكثر من ضعفهم عن هذا السياق الذي يحيط به، سواء ما خلفه تصويت البريطانيين بنسبة طفيفة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو تصعيد ما يقوم به «داعش» بالأصالة أو الوكالة أو عبر ما تسمى «الذئاب المنفردة» من عمليات إرهابية دموية في الغرب، طالت أكثر من دولة في السنوات الأخيرة.

وما لفت الانتباه عقب الحادث هو انتقاد إمكانات الأمن البريطاني، والربط بين تاريخ بريطانيا وما فعلته في السابق وما يفعل بها حالياً على أيدي التنظيمات الإرهابية، من منطلق القاعدة التي تقول «من يلعب كثيراً بالنار لابد أن يحرق أصابعه». ويتحدث المنتقدون عن قلة احترافية، أو انعدام كفاءة الأمن البريطاني وفي هذا شيء من المغالاة، فالطور الأخير من الإرهاب يبدو عصياً على المواجهة الشاملة والحاسمة، مضمونة النتائج في كل الأحوال، إذ ليس بوسع أحد أن يوقف انتحارياً عن أن ينهي حياته وحياة كل من تطاله عملية انتحاره التي لا تتم بشكل فردي أو سري وإنما ترمي إلى إزهاق أرواح أكبر عدد ممكن يتصادف وجودهم إلى جانب الانتحاري المجرم. 

وقد قامت كل النظريات العسكرية والأمنية بالأساس على أن الفرد المقاتل حريص على حياته، وأن كل الذين يقودونه أو يخططون له يعملون من أجل هذا الهدف أو وفق ما يحدده من إجراءات وترتيبات، أما أن يُقدم «المقاتل» على قتل نفسه، وهو ما تقوم به التنظيمات الإرهابية، فهذا يتجاوز النظريات الأمنية والعسكرية القائمة، ويتطلب تعاملاً مختلفاً، ينقل الحرب ضد الإرهاب من مستوى «الدفاع» إلى «الهجوم» الذي يعني هنا استباق الإرهابيين بخطوات، من خلال جمع معلومات كافية عنهم، تقود إلى تفكيك خلاياهم، والإجهاز على إمكاناتهم في المنبع أو المهد، أما ما دون ذلك فليس من المضمون أن يؤدي أي جهد مبذول إلى حماية المجتمع من خطر الإرهاب.

أما الذين قد يشمتون في بريطانيا، فإن شماتتهم تلك لا تعني تضاؤل حضورهم الإنساني في هذا المشهد الذي يثير الشفقة والتعاطف، إنما تنم عن عتاب مرير لبريطانيا على لعبها دوراً كبيراً، إبان الحقبة الاستعمارية، في إنشاء تنظيمات ما يسمى بـ«الإسلام السياسي» لضرب الحركة الوطنية التي تنادي بالاستقلال، فأنشأت الجماعة الإسلامية في باكستان لضرب جهود المهاتما غاندي، و«الإخوان المسلمين» في مصر لضرب جهود حزب «الوفد»، الذي كان ينادي بالاستقلال والدستور، بل إن بريطانيا مسؤولة عما هو أبعد من هذا زمناً، عبر تشجيع التسلف للنيل من الإمبراطورية العثمانية في إطار الصراع الدولي في القرن التاسع عشر. وبالتالي لا يتعدى ما يقوله الشامتون: «تجني بريطانيا ما زرعته، كما جنت الولايات المتحدة حصاد تشجيعها للقاعدة ومن بعدها داعش»!

لكن العتب المستند إلى وقائع تاريخية لا يعني أن العاتبين على الغرب عموماً، وبريطانيا خصوصاً، متعاطفون مع الإرهابيين، بل على النقيض من هذا، فهؤلاء في طليعة من يقفون ضدهم، ولكنهم يؤمنون بأن القضاء المبرم على الإرهاب لن يتم إلا إذا تخلى الغرب عن هذه الازدواجية في التعامل مع التنظيمات التكفيرية، وتوظيفها في خدمة مصالحه الآنية.