السيد ولد أباه

خلال انعقاد القمة الإسلامية الأميركية في الرياض، تم تدشين «مركز اعتدال العالمي لمحاربة التطرّف» الذي يشرف عليه ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان، في سياق مقاربة جديدة لمواجهة الغلو، ومصارعته في مصادره ودوائره المختلفة، من خلال الرصد والاستباق والتوجيه الفكري والمعالجة الإعلامية.

ولا شك أن تأسيس هذا المركز بالتزامن مع القمة الموسعة الناجحة غير المسبوقة التي التأمت في الرياض، يكشف عن وعي قوي بحجم المخاطر الجوهرية التي لم تعد تهدد فقط أمن المنطقة والعالم بكامله، وإنما أصبحت أيضاً تهدد صورة الإسلام والثقافة الإسلامية، في حقبة تتزايد فيها مشاعر الخوف من الإسلام في جل بلدان العالم، كما تبين استطلاعات الرأي المتوفرة. ولقد عبّر خطاب الملك سلمان في القمة بقوة عن هذه التوجهات من خلال مطالبته بوقفة اجتماعية قوية ضد التطرّف والإرهاب، دفاعاً عن الدين وعن الأمة وعن أمن العالم واستقراره.

وفي حين قامت المقاربة التقليدية في محاربة التطرّف على الآلية العسكرية والأمنية، فقد أثبتت التجارب الأخيرة أن هذه المقاربة غير كافية وإن كانت ضرورية، لأنها تنسى أن التطرّف هو في خلفيته العميقة وعي مختل وفكر منحرف وثقافة عدوانية، ومن الشجاعة الاعتراف بأن هذه الجذور موجودة في أوساطنا ونسيجنا المجتمعي.

غني عن البيان أن الإسلام من حيث هو دين ومنظومة عقدية وتقليد تراثي بريء من هذا الفكر المنحرف، بيد أن هذا القول الذي لا خلاف حوله لا يعفينا من مسؤولية مواجهة الانحرافات التي الخطيرة التي حدثت باسم ديننا وعقيدتنا.

لقد ذهبت بعض الدراسات الغربية إلى ربط هذه الانحرافات بالعقيدة السلفية، واعتبرت أن الراديكالية الإسلامية ليست سوى أثر لهذا المذهب العقدي، وهو ما نقرؤه على نطاق واسع اليوم في الأدبيات السياسية والإعلامية، مع العلم بأنه لا بد من التمييز بين المدرسة السلفية الأصلية التي هي مدرسة إصلاحية تنتمي إلى التقليد الإسلامي المعتدل وترفض العنف والتشدد، والاتجاهات الجديدة التي تتسمى بالسلفية، في حين أنها في واقع الأمر تصدر عن خلفيات مرجعية لا علاقة لها بالموروث السلفي.

إن هذه الخلفيات المرجعية يمكن تلخيصها في رافدين محوريين يعودان إلى تيارات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها التيار الإخواني الذي نبعت منه هذه الحركات الأيديولوجية الراديكالية:

أما الفكرة الأولى فهي القول بازدواجية الديني والسياسي في الإسلام، أي اعتباره ديناً ودولة في نفس الوقت، وهي مقولة لا أصل لها في التقليد الإسلامي الذي اعتبر «الإمامة» حارسة للدين، وفق عبارة الماوردي الشهيرة، أي راعية لشؤونه وحافظة للأمة لا مجسدة للدين على غرار المنظومات الثيوقراطية التي هي أحد أشكال السلطة المعروفة في العصور الوسيطة. إن خطر القول بالدولة الدينية هو تحويل موضوع الشرعية السياسية إلى موضوع عقدي ينتج عنه ضرورة تكفير الحكام والمجتمعات ورفع السلاح على الدولة، وهو المسلك الذي حدث في الكثير من البلدان الإسلامية.

أما الفكرة الثانية فهي تحويل مفهوم الجهاد من دلالته الفقهية الأصلية التي هي رد العدوان ودفع الضرر عن بلاد الإسلام، وفق ضوابط دقيقة، في مقدمتها حصر حق إعلان الحرب وقيادتها بولي الأمر، أي الحاكم الشرعي القائم بالسلطة التنفيذية، وعدم التعرض للعزَّل ورجال الدين، إلى رؤية كاملة للعالم تقوم على الموقف العدواني من الآخر. ومن نتائج هذا التحريف تحويل مفهوم الشهادة من الاستماتة للدفاع عن الناس وإنقاذ الحياة إلى التدمير العشوائي والقتل الوحشي. وليس من السر أن بعض فقهاء «الإخوان» المعروفين برروا هذا النهج وأفتوا به في تناقض صريح مع الإجماع الفقهي.

وهكذا لا يمكن أن يواجه التطرّف إلا بحرب أفكار حقيقية، تستند إلى مدونة الإسلام التراثي الذي هو نتاج تجربة المسلمين التأويلية والتاريخية من جهة، وإلى الأفكار التجديدية التنويرية التي لا تزال ضعيفة التأثير في الساحة الإسلامية، نتيجة لقبضة دعاة التطرّف والفتنة على المشهد، مدعومين بماكينات إعلامية قوية وبدول راعية شاذة عن الإجماع الإقليمي القائم.

المطلوب هو تنقية الفكر الإسلامي من الرواسب الأيديولوجية الإخوانية التي نفذت إلى الثقافة الدينية العامة حتى أصبحت في بعض الأحيان من البديهيات، مع أنها شاذة ولا أصل لها في التقليد الإسلامي، وتلك حرب أفكار لا محيد عنها لمواجهة التطرّف في أصوله ومصادره وخلفياته العميقة.