طيب تيزيني

في الكتابة عن هذا الموضوع يتعين علينا أولاً أن نثبت حقيقة لا سبيل إلى الشك فيها، وهي الإقرار باختلاف الحضارات والثقافات، وخصوصاً بين الإسلامية العربية والأخرى الغربية. ولكن هذا الاختلاف أمر طبيعي ولا يُضعف مصداقية المسألة. لكن هنتنغتون يتحدث عن اختلاف ذي طابع إبيستيمولوجي (معرفي) بين النمطين المذكورين من الحضارات، الإسلامي العربي، والغربي. فهو يرى أن اختلافات الحضارة الغربية والإسلامية (العربية) حقيقة ثابتة لا تتغير. كما يرى في وجود صراع منعزل وموحد في نظام عقلي ما شرطاً على صحة نظريته عن صدام الحضارات. وبهذا يقضي هنتنغتون على كل الأمل في التقريب بين الحضارتين، ويتجاهل التقارب بينهما في الماضي والحاضر كله، ويتضح من ذلك أن المفكر إياه يفسر كل صراع، مهما صغر بأنه دليل على استمرارية الصراع، وأن الحرب حرب حضارية أزلية لا تنتهي إلا بنهاية التاريخ نفسه.

وثمة هنا أمران بارزان يحتاجان التدقيق والنقد. يقوم الأول منهما على النظر إلى كل صراع مهما صغر بأنه دليل على استمرارية الصراع، وهذا حكم ناقص خاطئ، لأنه يستنبط حالة استمرارية الصراع من كونه أبدياً، مهملاً بذلك وجود احتمالات كثيرة لنشوء حالات من الاختلاف والصراعات، لم تؤد إلى حرب حضارية أزلية لا تنتهي إلا بنهاية التاريخ. وبكلمة، إن هنتنغتون يعمم حالة من الصراع مع حالات متعددة، متجاهلاً الخط الناظم العام لحركة التاريخ. والحالة الخاصة التي أهملها فهي أنه يستنبط مسار تاريخ بأكمله من حادث يمكن أن يكون ظاهرة فردية أو غير عامة.

ونلاحظ أن هنتنغتون أهمل أن التاريخ لا يسير إلى الأمام بمجرد توقف جدي لسبب صراعي، هذا أولاً. أما ثانياً فيلاحظ أنه غيّب ما يمكن أن يكون خصوصية التطور العام لبلد أو منطقة، مهملاً مواجهة النتائج الدامية التي قد تنبثق من أحداث مفتعلة هنا أو هناك، ليقال بعد ذلك إن هذه الأحداث تعبر عن أجواء تنسحب على كل ذلك العالم. إن هذا الرأي سينظر إليه على أن الأحداث المذكورة هي الجوهر في الموقف. وفي نهاية الموقف سيتعين علينا أن نصادق على القول الاستشراقي العرقي: الشرق شرق، والغرب غرب ولا يلتقيان!

في مواجهة ذلك ونقده نقداً تاريخياً حضارياً يعيد المسألة إلى نصابها، نلاحظ أن التدليل على ذلك يمكن القول مثلاً إن ظاهرة «داعش» وغيرها من الظاهرات الطائفية والعرقية وغيرها في العالم العربي في هذه المرحلة، مرحلة الانكسار والتفكك، أمر لافت بصورة فاقعة. وقد يكون مقدمة لانهيارات فظيعة، قد لا تقوم البلدان العربية بعدها ثانية إلا بعد عشرات السنين. إن نُظماً عربية وجدت نفسها وجهاً لوجه أمام احتمالات التمزق والتقسيم، وقد تحولت إلى قصعة التأم حولها الطامعون الحالمون بوضع أيديهم عليها، وإنهاء طاقاتها وقدراتها البشرية أولاً، وكل شيء آخر بعد ذلك.

إن هذه الأحوال عاشت أمثالها سوريا العربية في أوائل القرن العشرين، حيث كانت مؤامرة سايكس- بيكو قد حيكت لتقسيمها بين الطامعين هنا وهناك.

إن هنتنغتون وأمثاله من صُنّاع الخرائط الاستراتيجية الجديدة في الشرق الأوسط وفي العالم العربي منه بشكل خاص، كانوا يبحثون عن مواقع لهم تعيد النظر في ذاكراتهم التاريخية لتحويل مخزوناتها إلى وقائع يعيدون عبرها مواقعهم في العالم العربي، فهؤلاء وزملاء لهم في مناطق أخرى يخططون لما يكمن في حساباتهم من إعادة ذلك العالم إلى مخزونهم الخاص. وفي سياق هذه العملية استخدموا طريقتين رئيسيتين، هما التهجير والطائفية، وهما طريقتان تستطيعان إذا ما تمكنوا منهما، أن تقدما نتائج كارثية. وقد تكون النتيجة التالية في حساباتهم هي إعادة ترتيب البيت السوري وربما كذلك غيره، باتجاه تحقيق الحلم القائم على تدمير الشعار التاريخي الوطني والقومي، الذي هو: المحافظة على سوريا أرضاً وشعباً.

ها هنا نفهم لماذا ظهر «داعش» في العالم العربي، وتحول إلى ظاهرة آخذة في التفاقم، وفي مفاقمة «الإسلاموفوبيا». فهذا ثمنه كبير، ليس أقل من تفكيك الوطن العربي عبر ما لا يحصى من الطرق، التي يظهر «داعش» في مقدمتها الآن. أما العجز في مواجهة هذه الظاهرة فيظهر كما لو أنه مكمل له. وإذا وضعنا في اعتبارنا أن تلك الظاهرة يراد لها أن تعم عبر طرائق منها: تفكيك الدول المدنية، والإبقاء على حالات الفساد، والابتعاد عن العدالة، مع تعميم الإفقار والانخراط في مشاريع اقتصادية وسياسية وهمية. لقد تشابكت المشكلات العظمى، وراحت تلوّح بتحولها إلى نار حارقة. ولم يبق إلا الخلاص.