عثمان العمير

بوفاة أستاذ الصحافة السعودية، تركي عبد الله السديري، رئيس تحرير جريدة «الرياض» أعواماً طويلة، انطوت صفحة مفصلية من تاريخ مهم عشناه، وعاشه المجتمع السعودي، عقوداً من الزمن.

بعيداً عن الحزن المحيط بي، لفقدان معلم وأخ أكبر وصديق فاخر، كان تركي السديري مالئَ الدنيا وشاغلَ الناس. كان شهاباً سقط على بحيرة الصحافة فعمَّها الاضطراب وهدير الأمواج. اشتعلت فيها النيران. دخل ساكنوها لحن التمرد. التمرد على القديم وأنماطه السائدة. التمرد على صحافة «حي المرقب» في الرياض، والولوج إلى رحاب الإعلام المتسع الواسع.

عثمان العمير وتركي السديري وصورة تجمعهما مع العاهل السعودي وملك اسبانيا خوان كارلوس.. من ارشيف مازن السديري

كان «حي المرقب» يشكل، مع مجموعة أحياء متلاصقة، قلب الرياض النابض، بل محور حركتها. فهنا الإمارة، القضاء، الأسواق، المحاكم، الشوارع الضيقة، التي بالكاد تتحمل عبور سيارة واحدة، الأطفال الذين يلعبون داخل الأزقة، والنساء اللاتي يتخاطبن بين بيوت محاطة بكتل من الطين، ويتبادلن الحكايا والهموم. لم تكن الأسوار الغامضة، ولا الأبواب الموصدة، تمنع تسرب القصص والإشاعات، وصراعات جيران تحكمها في المنتهى قوانين التعايش، الضاربة جذورها في القدم.

كانت تلك هي بدايات تركي السديري، الطالب في جامعة الرياض، المنشأة حديثاً آنذاك. ثم، كاتب القصة الفاشل، الذي تحوّل للأدب فترك الجامعة، ثم انتقل للرياضة، حيث انتمى لنادي الهلال، أشهر الأندية السعودية وأكثرها شعبية، ومنها إلى سكرتارية النادي. لكن تركي السديري، ذلك الشاب المغامر الذي لا يملّ الخلاف والاختلاف، شق عصا الطاعة على معلمه الرياضي، عبد الرحمن بن سعيد، مهاجراً من «شارع الظهيرة» إلى «حي الخزان»، حيث الغريم الجديد لعبد الرحمن بن سعيد، وهو الأمير عبد الرحمن بن سعود، وحيث نادي النصر. لم تطل هجرة تركي السديري، وما استقر المقام به في النصر، بل قرر أن يثأر من صديقيه اللدودين، الرياضيين، ويأوي إلى جبل الصحافة، الذي سيعصمه من النار والموج والماء. هناك، بدأ يكتب في «الجزيرة»، ثم اختير محرراً رياضياً في جريدة «الرياض»، ومن تلك الانطلاقة أضيئت في «حي المرقب» منارة جديدة، وسلطة أخرى إلى جانب السلطتين الأولى والثانية، سلطة الصحافة، ولعمري أن تلك كانت البدايات لإعلام نما بسرعة في بلد كان ينمو بسرعة.

في تلك الفترة تعرفت إلى تركي السديري. كنت طالباً مطروداً في السابعة عشرة، آتياً للعاصمة من المدينة المنورة، ومن معهدها العلمي - هذه التسمية تجاوزاً، فقد كان أقصى آمالنا أن يدرسونا امرأ القيس - كتبت مقالاً لمجلة «اليمامة»، التي كان يرأسها الأستاذ محمد الشدي، عن الدور السياسي للفنان السعودي. ذلك المقال أغضب أساتذتي الأغيار، الذين يرفضون شعر أبي العلاء المعري، لكنه أعجب تركي السديري، المختلف والمخالف. عن طريق أخي الراحل، عُمير، طلب تركي أن يراني، فكان لقاء، وكانت رحلة عمر اجتمعت فيها أواصر المحبة، مع مساحات الخلف والاختلاف، وحيناً التنافس والتأجج والتأجيج. لكن الذي استمر حتى الممات، هو ذلك الود المقيم، والاحترام المستمر، والإعجاب العارم.

كان تركي السديري عناقيد نجاح، صخوراً من التحدي، وغاباتٍ من الفرح. كان تركي... لا غير. روى لي إبراهيم القدير، صديق تركي السديري وأمين سره ومرافقه منذ عشرات السنين، أنه كان في أيامه الأخيرة يذهب إلى هناك، حيث «حي المرقب» فيجول في بقاياه، باباً باباً، ورصيفاً رصيفاً، ثم يستعيد تلك الذكريات، وصدى تلك السنين الحاكي.

أبا هند فلا تعجل علينا...

طاب مقامك مختلفاً ومُخالفاً!