هادي اليامي

من الإيجابيات المتوقعة من عمل مركز اعتدال أنه سيعمل على توحيد جهود دول التحالف الإسلامي، وإسداء النصح لها، ولن يكون عمله نخبويا ينحصر في إقامة الندوات وتدبيج الخطابات، بل سيكون في معظمه على الجانب العملي

مواصلة لقناعاتها بأن مواجهة آفة الإرهاب هي مهمة فكرية ثقافية، أكثر من كونها أمنية عسكرية، وامتدادا لجهودها في تحصين الفكر الإسلامي الأصيل، بادرت المملكة إلى إنشاء المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف «اعتدال»، بالتزامن مع انعقاد القمة العربية الإسلامية الأميركية، في الرياض، بحضور ومشاركة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، وملوك ورؤساء وقادة 55 دولة عربية وإسلامية.
ودأبت المملكة خلال الفترة الماضية على الاهتمام بالجانب الفكري، وتصحيح الأخطاء المغلوطة التي ارتبطت بأذهان كثير من الشباب الذين تورطوا في أعمال إرهابية، وتلطخت أياديهم بدماء الأبرياء، بعد أن استغلهم أشخاص ابتلوا بسوء التفكير ومرض النفوس، فاستخدموا الدين وسيلة لتمرير غاياتهم المنحرفة، وتدثروا بثياب الإسلام الحنيف، لتبرير تصرفاتهم المرفوضة، وهو منهم براء، ولم يكتفوا بذلك، بل حرفوا آيات القرآن الكريمة عن سياقها الصحيح، وبادروا لتأويلها بما يخالف تفسيرها الذي اتفق عليه كافة العلماء. وخدعوا صغار السن، بعد أن جندوهم باستغلال العاطفة الدينية المتقدة في دواخلهم، وأوهموهم بأن أبواب الجنان مفتوحة لهم، وأن الحور العين في انتظارهم، بمجرد تنفيذهم للعمليات الانتحارية، والخروج على دولهم وحكوماتهم.
هنا يكمن موضع الخطورة، لأن تجييش الإنسان بفكرة دينية، واستقطابه بزعم الدفاع عن العقيدة، يجعل منه قنبلة موقوتة تسير بين الناس، يمكن أن تنفجر في أي لحظة، ولن يتورع مثل ذلك الشخص المعبأ بأفكار دينية باطلة عن القيام بكل ما يُطلب منه. وكانت نظرة قيادة هذه البلاد مختلفة بصورة كبيرة، حيث رأت أن الشباب الذي يُستخدم وقودا لهذه الحرب الكريهة، يستحقون العطف والدعم والأخذ بأياديهم إلى رحاب الدين الصحيح، وإعادة دمجهم داخل المجتمع، بعد تنقيتهم وتخليصهم مما علق برؤوسهم من أوهام وأباطيل، فأقامت مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة الفكرية، الذي لا يحتاج إلى مزيد من الحديث عن الأدوار الكبيرة التي قام بها، ودعت العلماء الثقات والخطباء للاحتكاك بالشباب، وتصحيح المفاهيم الخاطئة لديهم.
كما أدركت المملكة أن محاربة الإرهاب لا يمكن أن تكون جهدا فرديا، وأنه لا بد من تنسيق جهود كافة الدول لاجتثاثه من جذوره، لذلك بادرت إلى إنشاء المركز الدولي لمكافحة الإرهاب، وألحقته بالأمم المتحدة، وتكفلت بدفع كافة نفقات تشغيله، ودفعت ملايين الدولارات، وفي نفس الإطار عملت الرياض على تشكيل رأي إسلامي موحد من قضية الإرهاب، والتمييز بين المقاومة الوطنية والأعمال الإرهابية، وعقدت مؤتمر الحوار الإسلامي بمكة المكرمة، الذي أمته كافة الفرق والتيارات الإسلامية، واتخذت من ذلك الاجتماع أرضية لقيام مؤتمر الحوار بين أتباع الأديان والثقافات في جنيف، الذي كان حدثا مهما لم تشهد الأمة الإسلامية له مثيلا.
مركز اعتدال الذي تم تدشينه، لاستكمال تلك الجهود، يمثل إضافة كبيرة، فهو يتبع استراتيجية جديدة، حيث يعتمد على نظام حوكمة رفيع المستوى، ويعمل فيه خبراء ومختصون في مكافحة التطرف. ويرصد اللغات واللهجات الأكثر شيوعا لدى المتطرفين. كما يركز على مكافحة التطرف، بأحدث الطرق والوسائل، فكريا وإعلاميا ورقميا، ويرصد ويحلل الخطاب المتطرف بدقة عالية، وبشكل سريع لا يتجاوز 6 ثوان فقط من لحظة توفر البيانات أو التعليقات على الإنترنت، بما يتيح مستويات غير مسبوقة في مكافحة الأنشطة المتطرفة في الفضاء الرقمي.
هذه المهام غير التقليدية سيقوم بها المركز، بعد أن تم تزويده بوسائل تقنية غير مسبوقة، إضافة إلى رفده بعدد من الخبراء الدوليين المتخصصين والبارزين في مجال مكافحة الخطاب الإعلامي المتطرف على كافة وسائل الإعلام التقليدية والفضاء الإلكتروني. وتم اختيار مجلس إدارة المركز الذي يضم ممثلي دول ومنظمات عالمية، بدقة متناهية، روعيت فيها شمولية العمل وتحقيق الأهداف المرصودة في أقرب وقت ممكن.
ومن الإيجابيات المتوقعة من عمل المركز أنه سيعمل على توحيد جهود دول التحالف الإسلامي، وإسداء النصح لها، ولن يكون عمله نخبويا ينحصر في إقامة الندوات وتدبيج الخطابات، بل سيكون في معظمه على الجانب العملي، بحيث يتم تمرير المعلومات للدول الأعضاء، وبقية دول العالم، حتى يمكن التحرك بالسرعة المطلوبة، لاسيما أن الإرهابيين في الطرف المقابل يستعينون بخبراء في مجال الإعلام، يمتلكون قدرة كبيرة على التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي بحرفية عالية، كما يمتلكون القدرة على توجيه الرسائل الإعلامية المضللة بصورة احترافية، كما حدث في مجلتهم المسماة «دابق»، وهو ما اعترفت به منظمات المجتمع الدولي التي أشارت صراحة إلى أن الإرهابيين ربما كسبوا جولات إعلامية في حالات عديدة، ودعت إلى تغيير نوعية التصدي الإعلامي، واتباع أساليب وأنماط جديدة غير تقليدية، وتحسين طرق التعامل معهم، وهو عين ما يختص به مركز «اعتدال».
الخطوة السعودية الأخيرة تؤكد مسايرة المملكة للعصر، ومواكبتها للمتغيرات التي يمر بها عالم اليوم، وإيمانها بحتمية اصطفاف المجتمع الدولي صفا واحدا لاجتثاث التطرف والتشدد، وهو جهد إضافة إلى مساهمته الكبيرة في تخليص العالم من الإرهاب، طاعون العصر، الذي بات يمثل أكبر التهديدات للعالم أجمع، إلا أنه في المقابل يقدم خدمة عظيمة، لا تقل عن ذلك الهدف السامي، تتمثل في تصحيح صورة الدين الحنيف، وتفنيد الآراء التي تربط بينه وبين الإرهاب، وتأكيد أنه دين التسامح والتعايش مع الآخر، الذي يرفض الإقصاء، ويحرم قتل النفس البشرية، بغض النظر عن دينها وعرقها ومذهبها، وهي المبادئ العظيمة التي أرساها وأقرها قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، عندما كان الآخرون يغطون في جاهليتهم، وتحصدهم الحروب، وتبيدهم الصراعات الطائفية.