محمد أبـو الفضل

مكافحة الإرهاب عملية معقدة، ولا توجد دولة فى العالم تستطيع القضاء عليه بطريقة واحدة أو بمفردها، فلابد من خطة داخلية محكمة تجتث الجذور التى أفضت إلى نموه وزيادة عدد المنخرطين فيه، ودرجة عالية من التكاتف الدولى لقطع رءوسه وأذرعه فى الخارج.

الجهود التى بذلتها مصر على المستوى الأول، لا تزال بحاجة إلى مزيد من الخطوات التى تشمل جميع الأجهزة المحلية، لتتحمل مسئوليتها السياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية، فالجهود الأمنية التى حققت نجاحات لافتة تحتاج من يدعمها على مستويات أخرى، حتى لا تتجدد المعركة مستقبلا.

على المستوى الثاني، بدأ العالم يلتفت إلى بعض الدول الداعمة للإرهاب، ويعترف بأن التخلص من شروره يستوجب محاسبة كل من يقف خلفه، لأن العناصر التى تتغذى عليه لن ترتدع ما لم تتوقف الأموال التى تتدفق عليهم.

الرؤية التى تبناها مبكرا الرئيس عبدالفتاح السيسى بشأن الأبعاد الخارجية للإرهاب، أخذت تؤتى نتائجها لأنها كانت مبنية على معلومات دقيقة وتدرك خطورة الموقف، منذ أن دعا المصريين لتفويضه (وقتها كان وزيرا للدفاع) فى مكافحة الإرهاب يوم 26 يوليو 2013، ثم تحذيراته المتتالية لدول كثيرة من أن نيران الإرهاب والتطرف سوف تلحق بهم، إذا استمر الدعم والتراخى والصمت، وبدا وقتها أن بعض القوى الكبرى ارتاحت لحرب الاستنزاف التى تخوضها دول أخرى نيابة عنها.

بعض الدوائر السياسية فى الخارج بدأت الآن تعيد النظر فى مواقفها وتعى أن النظرة لملف الإرهاب من الضرورى أن تتغير، وأخذت الدول التى كانت رافضة أو متحفظة على التقديرات المصرية تدرك حجم الخطر، عندما أخذت نيرانه تقترب منها، وكشفت الكثير من الأحداث أن زمن الفوضى والتواطؤ لم يعد مجديا.

التقدم الذى أحرزته مصر على المستوى المادى كان مهما لتعديل جانب معتبر فى التوازنات المختلة، التى مالت فى بعض الأوقات لمن ناصروا المتطرفين، والعمليات النوعية التى قامت بها أجهزة الأمن ضد المتشددين خففت القدرة التدميرية لهؤلاء، وأسهمت فى الحصول على معلومات توضح جوانب كثيرة فى المؤامرة التى حاكتها قوى تسعى لهدم مؤسسات الدولة المصرية.

الإفلات من هذه الحلقة الجهنمية لم يكن سهلا، لأنه استوجب إرادة سياسية واعية وقدرة فائقة على المجابهة وإمكانات وفيرة للصمود أمام عدو يتلون ويتبدل ويتخفى سريعا ويتدثر برداء الدين الذى يمثل وترا عاطفيا لدى قطاع كبير من المواطنين، ولم تؤثر العمليات الإرهابية التى استهدفت كنائس وأشقاء مسيحيين على نسيج المصريين، بل زادتهم صمودا.

العمليات المتعددة التى قام بها المجرمون جاءت بنتائج عكس ما يتمناه الإرهابيون والمحرضون، فهى ضاعفت من عزيمة وإرادة المصريين وقدرتهم على مواجهة التحديات بصبر وحنكة وحكمة، الأمر الذى تحول إلى ركيزة أساسية لتوفير سبل دعم إضافية لمواصلة التصميم على النيل من الإرهابيين وفلولهم فى كل مكان يمثل تهديدا للأمن القومى المصري.

ولأن الأراضى الليبية أصبحت واحدة من أهم الحلقات التى يلجأ إليها الإرهابيون، قام الطيران المصرى بقصف المراكز المعروف أنها تؤوى إرهابيين، بالتنسيق مع الجيش الوطنى الليبي، وبعد اتخاذ جملة من الإجراءات التى تؤكد احترام مصر الشرعية الدولية، من خلال إبلاغ مجلس الأمن بهذه الخطوات مسبقا، والتعاون والتفاهم مع جهات بدأت تدرك المخاطر الكامنة فى ليبيا.

الضربات التى وجهت حتى الآن، حملت مجموعة من الرسائل السياسية، أبرزها أن مصر عازمة على مكافحة الإرهاب فى أى بقعة تمثل تهديدا لأمنها، وأن مرحلة الانكفاء على الداخل انتهت، ولابد أن يتكاتف العالم ضد الدول التى تحولت إلى مخازن لإيواء الإرهابيين وأسلحتهم.

كما أن الجرائم التى ترتكب لن تتوقف عند دولة معينة، وانفجار بركان الإرهاب يمكن أن يلحق الأذى برعاته أيضا، ولعل عملية مانشيستر فى بريطانيا الأسبوع الماضى تفرض على لندن إعادة تقييم رؤيتها التى تفرق بين تيار الإرهاب بالسلاح والإرهاب بالصراخ.

الطريقة التى تدير بها مصر ملف الإرهاب يمكن أن تعزز دورها الإقليمي، بعد أن أصبحت مكافحته واحدة من المداخل الحقيقية لكشف أوزان الدول، وقيام جهات عديدة بالتعامل معه باعتباره رأس الحربة فى المنطقة، ومقدما على كثير من القضايا الحيوية، والدول التى تورطت عن قصد أو بدونه فى دعم المتطرفين حان أوان حسابها، وهو ما يفسر أحد أسباب الانزعاج القطرى والتركى خلال الأيام الماضية، فقد تيقنت كل من الدوحة وأنقرة أن ساعة الحساب اقتربت.

هنا تذكرت حوارا مع صديق عربى بشأن تعجبه من التسامح المصرى مع كل من قطر وتركيا، وأنها لم تنجر إلى مهاترات أو تدخل فى حرب كلامية، ولم تلجأ إلى أسلوب الميليشيات أو الجماعات التى تتحرك خارج نطاق الشرعية، لذلك فى طريقها لتنتصر فى معركتها السياسية مع هاتين الدولتين دون أن تضطر للانزلاق لمربع الكراهية الذى حكم الكثير من تصرفات كل منهما.

العبرة تأتى من رحم المحن، وأثبتت الأيام أن مصر قادرة على خوض المواجهة حتى النهاية، والرهان الحقيقى على ما تملكه من مقومات لا على ما يقدمه الآخرون من عناصر تشى بالقوة، وربما تعاظم التحديات كان أحد أسرار النجاح الخفية، فالدول مثل الأشخاص تظهر معادنها عند الملمات، ومصر إما أن تكون قوية ومؤثرة أو تتكالب عليها الأمم. لذلك كان الخيار الأول حتميا، واتخذت جميع الخطوات الأمنية لمحاصرة الإرهاب بلا تراخ، والأيام المقبلة سوف تثبت أن لعبقرية الجغرافيا والتاريخ والسكان دورها الفاعل فى تحريك كثير من التطورات فى الاتجاه الصحيح.

الرهان المصرى لمكافحة الإرهاب سوف يصل مداه، إذا نجحت الحكومة فى القيام بالمهام التى يجب أن تقوم بها مبكرا، وتتعلق بالحركة على جميع الخطوط التى تسهم فى التخلص من المكونات المحلية للإرهاب، واتخاذ الإجراءات اللازمة التى تمكنها من تنشئة جيل جديد أكثر انفتاحا وتقبلا للآخر.

وإذا استطاعت التوصل لصيغة تفاهم جدية مع حكومات أخرى حيال آليات مكافحة الإرهاب والنظر إليه برؤية شاملة، بعيدة عن الانتقائية، وإدراك ضرورة اجتثاثه من مصادره الأساسية، واقتلاع الجذور التى تمثل رافدا ماديا ومعنويا له، والقدرة على محاسبة من يقفون خلف الكواليس لتغذيته لأسباب اقتصادية أو مذهبية.