وليد محمود عبدالناصر

تقترب في غضون أيام قليلة الذكرى الخمسون للهزيمة العربية في 5 حزيران (يونيو) 1967 في مواجهة إسرائيل، أو ما يعرف بحرب الأيام الستة، وهي بالتأكيد ذكرى أليمة على كل عربي. وعلى رغم كثرة ما كتب وقيل عن هذه الحرب، بما في ذلك على الجانب العربي، تبقى حقيقة أن هناك الكثير جداً، الذي ما زال يمكن قوله عنها وعن الدروس المستفادة منها عربياً، وهي حرب لها أهميتها حتى اليوم، وسوف تستمر هذه الأهمية في المستقبل المنظور، خصوصاً أن العرب ما زالوا يعيشون نتائج هذه الحرب في شكل استمرار احتلال أراض عربية وتراجع المكانة الدولية للعرب وتعدد انقساماتهم، ومن ثم سوف تستمر أهمية الدروس المستقاة منها وضرورة الاستفادة منها على الصعيد العربي.

الملاحظة الأولى هي أنه بخلاف ما يراه البعض من أن هزيمة 1967 كانت مجرد حدث عارض ولحظة استثنائية تؤكد القاعدة العامة عن صحة المسيرة العربية السابقة لحدوث الهزيمة، أو ما يراه البعض الآخر من أنها كانت مجرد هزيمة عسكرية، أو ما يراه البعض الثالث من أنها كانت مجرد هزيمة لبعض الأنظمة العربية، وتحديداً تلك التي كانت تسمى آنذاك تقدميّة أو قومية، فإن هذه الهزيمة كانت كاشفة، وليست منشئة، عن حالة عامة من الإخفاق العربي، وعبّرت من جهة ثانية عن حجم التحدي التاريخي الذي تواجهه الأمة العربية نتيجة عداء العديد من الأطراف الإقليمية والدولية لأي إمكان للنهوض والتنمية في الوطن العربي، ناهيك بنية تلك الأطراف التصدي لأي بارقة أمل تجاه التوحد أو التضامن بين البلدان العربية.

أما الملاحظة الثانية فهي أنه لا شك في أن هزيمة 1967 كشفت أنه بينما تجاهل العرب طويلاً قبل الهزيمة حقيقة وجود إسرائيل وأطلق عليها العديد من القادة والإعلاميين العرب آنذاك تعبير «إسرائيل المزعومة»، فإنهم بذلوا القليل من الجهد للتعرف الى هذا العدو وما يدور بداخله من تحولات، والقيام بدراسات تتبع المنهج العلمي للتعرف الى ما في هذا «الكيان المزعوم»، كما كانوا يطلقون عليه، من مواطن قوة وضعف، على الأقل من منطلق تنفيذ شعار «اعرف عدوك»، وذلك بخلاف ما حدث بعد الهزيمة من بدء الاهتمام بإنشاء ورعاية مراكز أبحاث ودراسات في عدد من الدول العربية تهتم بالبحث في مجالات مختلفة من الحياة والمجتمع والعقيدة والفكر والسياسة والاقتصاد والجيش وغيرها من نواحي النشاط البشري في إسرائيل، ومن ذلك على سبيل المثل لا الحصر «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، وذلك في سياق أعم من بروز حالة وعي بضرورة إحداث نهضة عامة في الاهتمام بإقامة الهياكل والبنية التحتية اللازمة لإطلاق مشاريع وبرامج للبحث العلمي في العديد من البلدان العربية في أعقاب الهزيمة.

وعلى صعيد ثالث، فإن هزيمة 1967 كشفت عن أوجه خلل هيكلية في إدارة الجيوش العربية، فمن جهة ظهر جلياً أن مفهوم «الجيوش العقائدية» في بعض الدول العربية، وتحديداً الحالة السورية على الجبهة الشرقية، كان غير ناجح على الإطلاق في الحرب الحقيقية على الأرض، وذلك في مقابل مفهوم الجيش المحترف الرفيع التدريب والتسليح، والذي تنضبط فيه البنية الهرمية للقيادة والقاعدة، والبعيد تماماً عن اعتبارات الأيديولوجيا واختلاطها بالسياسة.

وبالدرجة ذاتها كشفت هزيمة العرب عن أخطار تشتيت جهود الجيوش على أكثر من جبهة وفي أكثر من معركة، وأيضاً تشتيت تركيزها في أنشطة متنوعة بعضها قد لا يكون له علاقة بالوظائف التقليدية للقوات المسلحة في شكل مباشر، وهو ما كانت عليه حال الجيش المصري آنذاك، بين قطاع مهم ومتميز منه من جهة التدريب والإعداد يحارب لدعم ثورة المشير عبدالله السلال والدكتور عبدالرحمن البيضاني في اليمن، وقيادة عسكرية ممثلة في المشير الراحل عبدالحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة ثم نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، تفرعت اهتماماته لتولي وظائف قيادية في العديد من المجالات خارج المجال العسكري المتعارف عليه مثل تولي رئاسة «اللجنة العليا لتصفية الإقطاع»، والإشراف على القطاع العام، بل ورئاسة اتحاد كرة القدم المصري في ذلك الوقت.

من جهة رابعة، هناك درس آخر يمكن أن نستقيه من هزيمة عام 1967، أن نهضة الشعوب والأمم لا تتجزأ وتمثل عملية متكاملة تأخذ بالأسباب وتتسم بالتواصل وتمر عبر مراحل زمنية ممتدة، والتفوق العسكري هو نتيجة، ضمن نتائج أخرى، لعملية التنمية والتحديث، وليس سبباً في حدوث هذه العملية أو هدفاً في حد ذاته، فعندما ينمو المجتمع نمواً متوازناً في مختلف الجوانب المادية والمعنوية يستطيع أن يفرز جيشاً قوياً متماسكاً قادراً على الدفاع عن وطنه. 

فالهزيمة عكست غياب التنمية المتوازنة في كل البلدان العربية التي كانت تتمتع بالاستقلال السياسي في ذلك الوقت، سواء تلك التي تعرضت جيوشها للهزيمة في شكل مباشر أو تلك التي كان من المفترض أنها تمثل العمق الاستراتيجي للمجموعة الأولى من الدول. 
فالحريات والحقوق المدنية والسياسية وما يرتبط بها من مؤسسات وثقافة وتشريعات وممارسات تمثيلية ديموقراطية كانت تقريباً شبه غائبة عن كل البلدان العربية المستقلة آنذاك، بينما كانت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قد تحققت في بعض الحالات وخلال بعض المراحل السابقة على هزيمة 1967 لدى عدد من البلدان العربية وارتبط بذلك تحقيق تقدم باتجاه العدالة الاجتماعية، وأثبت التاريخ اللاحق أنه كان من السهل الارتداد على هذا التقدم في أقرب فرصة تولت فيها قوى ذات توجهات مناهضة للعدالة الاجتماعية الحكم في تلك البلدان نظراً لأنه منذ البداية عاب التوصل إلى هذا الإنجاز، أو ما تحقق منه، أنه لم يكن مرتبطاً في شكل عضوي بإقامة قنوات للمشاركة المجتمعية أو آليات للتمثيل الشعبي تلعب دورها في عملية صنع القرار. 

كذلك كان الكثير من البلدان العربية التي تشهد تنوعاً عرقياً أو قومياً أو لغوياً يعاني من عدم القدرة على التعامل الإيجابي مع هذا التنوع والأقلمة بينه وبين الحالة العارمة للمد القومي العربي، خصوصاً على مدار عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، بغرض تحويل هذا التنوع إلى عامل إثراء وقوة بدلاً من أن يكون مدخلاً للاختراق من جانب أطراف خارجية أو يتحول إلى نقطة تساهم في تفتيت الصف الوطني والقومي والنيل من الوحدة الوطنية والسلم الأهلي لتلك البلدان العربية.

وعلى صعيد خامس وأخير، فإن الحالة بين الدول العربية كانت أبعد ما تكون عن التوحد أو التضامن، بل كان هناك ما وصفه، وعن حق، عالم السياسة الأميركي الراحل مالكولم كير بأنه «حرب باردة عربية»، حيث الصراعات داخل الوطن العربي وبين الأطراف الرئيسة في ما هو مفترض أنه نظام إقليمي عربي كانت تزداد تصعيداً وتعقيداً، وحالة الاستقطاب بين الدول العربية في سياق الحرب الباردة بين القطبين الأميركي والسوفياتي ترتفع وتيرتها، فشاهدنا على سبيل المثل حرباً بالوكالة، بل وأحياناً مواجهات مباشرة، بين مصر والسعودية على أرض اليمن الشمالي في ذلك الوقت بين عامي 1962 و1967، وشاهدنا كذلك اشتباكات حدودية مسلحة جزائرية مغربية في أعقاب استقلال الجزائر عام 1962، وذلك من دون أن ننسى أن مباحثات الوحدة الثلاثية المصرية السورية العراقية لم تمنَ فقط بالفشل بل توترت العلاقات المصرية- السورية ودخل الوطن العربي حالة من المزايدات بين البلدين على أيهما يمثل الطرح القومي العربي: سورية البعثية أم مصر الناصرية، مع توترات بدأت مبكراً كذلك في العلاقات السورية- العراقية، وحالات مد وجزر في العلاقات بين الأردن من جهة والجمهوريات المتبنية النهج القومي في مصر وسورية والعراق من جهة اخرى. وفتح كل ذلك وغيره الباب لإمكان توغل أطراف إقليمية ودولية غير عربية داخل المعادلة العربية وجذبها أطرافاً عربية في مواجهة أطراف عربية أخرى، مما أضعف كثيراً الحالة العربية في الفترة السابقة على الهزيمة.


* كاتب مصري