سمير عطا الله 

أصدرت الجامعة الأميركية في القاهرة، كتاباً سمّته «الأطلس الأدبي للقاهرة». الشوارع والمقاهي وزقاق المدق. مدينة يَكتب لها الكتّاب، ويغني لها الشعراء، ويحلو فيها الطرب، ويجلو فيها الأدب. «الأطلس» خريطة لما ورد في الروايات من أسماء وحكايات. مائة اختيار جميل من نجيب محفوظ، ويحيى حقي، ويوسف إدريس، ومحمد جلال، وفتحي غانم، وسائر الذين استلهموا شوارع القاهرة وقصورها وأزقتها وكباريها في صناعتهم الأدبية، وبحثهم عن الحب والحياة.
أعتقد أن المدينة الوحيدة التي تتجاوز القاهرة «كبطلة» في الروايات، هي باريس. لا لندن ولا نيويورك ولا دلهي. في آداب الفرنسيين والبريطانيين واليونانيين والعرب والأميركيين، تظهر القاهرة دائماً، كفصل عند رحالة، أو إطار تاريخي عند مفكر، أو صورة روائية. وبقدر ما كتب الفرنسيون عن باريس، بقدر ما كتب المصريون عن القاهرة. لقد ملأت حياتهم بجميع وجوهها ودرامياتها. مرة ضاحكة، مرة ساخرة، مرة قاع الفقر، مرة محاصرة، ودائماً، جميلة وحانية.
يروي محمد جلال في «ليالي المنيرة» أنه عندما كان طفلاً، بعثته أمه إلى الفرن لشراء الخبز. وفيما هو عائد إلى البيت، رأى الناس تتجمع، فسأل عن السبب، فقيل له إن موكب الملكة فريدة سوف يمر بعد قليل. وبعد انتظار، ظهرت سيارتها الملكية الجميلة، ورآها ترسم للناس ابتسامة ملائكية ساحرة، فأخذ يصفق بكل قوة حتى سقط منه الخبز، ولما عاد متأخراً إلى البيت، وجد أن والده قد ذهب إلى المسجد للصلاة، وغضب منه شقيقه، فضربه.
تمر السنون. يطلّق الملك فاروق زوجته الأولى فريدة. ثم يخرج هو أيضاً من مصر. وتحاول الملكة الباسمة أن تتدبر معيشتها من بيع لوحاتها. وذات سنة كانت تقيم معرضاً في باريس عندما مرّ بها الراوي. رأى الابتسامة الملائكية نفسها، ولكن بعيداً عن مصر وعن المجد. وتقدم من الملكة الرسامة، وأخبرها «بالعلقة» التي تسببت بها له وهو صغير. فاعتذرت عن ذلك بآداب ملكية، فشعر بخجل شديد واعترض: «لا يمكن أن أرى ملكتي في حالة اعتذار».
سواء كانت هذه القصة حقيقة جميلة أم خيالاً جميلاً، فإنها لا تحدث إلا في تاريخ درامي متغير مثل تاريخ مصر. وقد أعادته إلينا بثرياته وجمالاته ومؤامراته ومظالمه، المسلسلات المبنيّة على الروايات الكبرى. و«الأطلس» الأدبي يؤكد لنا أن القاهرة أم الحكايات وتبدل الأزمنة وتنوع الأحكام. وفي استعمارها، أو في استقلالها، ظلّت مدينة بهية وحاضرة كبرى. وتبدو، في «الأطلس» الذي وضعته وترجمته إلى الإنجليزية سامية محرز، مثل مسرح تاريخي يُكشف فيه الستار من دون أن يُسدل. فالتاريخ حركة مستمرة، والأدباء شهود حاضرون، يغرفون منه، إلى أن أصبحت أعمالهم وأعمال الغرباء الذين مروا بالمدينة، «أطلساً» أدبياً بأسماء مضاءة. وها هو الطالب غازي عبد الرحمن القصيبي يصفها في «شقة الحرية» بأنها «عاصمة جميع العرب»، «جوهرة الله على الأرض»، و«أم الدنيا» كما يسميها المصريون..