إياد أبو شقرا

 في مطعم صغير على ناصية شارع بين المقرّ السابق لـ«الشرق الأوسط» ومبنى المتحف البريطاني بوسط لندن، تعرّفت إلى نادلة متحمّسة للسياسة البريطانية.
النادلة، وهي آيرلندية الأصل وأم مطلقة تربّي طفلة صغيرة، لا تفوّت مظاهرة لليسار إلا وتشارك فيها، وإذا سمحت الظروف تأخذ طفلتها معها.
كانت الخلطة عجيبة. المطعم مطبخه فرنسي، في قلب العاصمة البريطانية، يملكه إيراني غادر بلاده بعد الثورة الخمينية التي يمقتها بشدة... وكنت أدلف إليه بين الفينة مع بعض الزملاء العرب، فتهرع إلينا هذه النادلة الطيبة لتناقشنا في السياسة بعدما علمت أنني صحافي وأن معظم من معي من الزملاء والأصدقاء الصحافيين.
الشخصية المفضلة عندها جيريمي كوربين، الزعيم الحالي لحزب العمال، الذي كان في أواخر السبعينات وإبان عقد الثمانينات أحد البرلمانيين الشباب الأكثر جرأة في مناوأة سياسة مارغريت ثاتشر المتشددة ضد الجمهوريين الآيرلنديين. بل لقد دأب الساسة والإعلاميون المحافظون على اتهامه بتأييد حركيي حزب «شين فين» وجناحه العسكري «الجيش الجمهوري الآيرلندي».
بجانب «الصلة العاطفية» الآيرلندية، حبّب النادلة بكوربين أنه يساري «الأصل والفصل» نشأ في بيت الأب والأم فيه من اليساريين القدامى، وتعارفا إبان دعمهما للجمهوريين إبان الحرب الأهلية الإسبانية... وأنه يعتبر نفسه «نصير المستضعفين» في كل مكان، ولو كان ذلك يعني من يرفع السلاح في وجه العسكريين البريطانيين.
التقيتها بعد فوز كوربين بزعامة حزب العمال في سبتمبر (أيلول) 2015، الذي جاء بقوة أصوات الحركيين والتنظيمات الحزبية على مستوى القاعدة، ناهيك بالنقابات العمالية، فشعرت أنها تعيش في حلم لا تريد أن تستيقظ منه. الحدث كان بالنسبة إليها «ثورة» حان وقتها، مع أنه هزّ الكتلة البرلمانية للحزب، لأن معظم نوابها يتخوفون من راديكالية الرجل، ويعتبرون أن انتخاب زعيم براديكاليته العقائدية ستقضي على أي فرصة أمام الحزب كي يستعيد الحكم.
وحقاً، كثرة من القيادات العمالية المعتدلة و«البراغماتية» آمنت - ولا تزال تؤمن - بأن الفوز في الانتخابات البريطانية يفرض على أي من الحزبين الكبيرين، حزب المحافظين يميناً، وحزب العمال يساراً، الحرص على كسب الحصة الأكبر من قطاع الوسط... والظفر بأصوات الناخبين غير الملتزمين. ويبرّر هؤلاء ذلك بأن حزب العمال مُني بأشنع هزائمه عامي 1983 و1987 تحت سيطرة اليسار المتطرف، وكذلك مُني المحافظون بهزيمتين ساحقتين عامي 1997 و2001 عندما سيطر عليه متطرفو اليمين.
ومن هذا المنطلق، وقفت غالبية القيادات البرلمانية في حزب العمال ضد انتخاب كوربين. إلا أن الحركيين - ولا سيما من جيل الشباب - والنقابيين كسبوا المعركة، واستعاد اليسار الدفةَ لأول مرة ... منذ أشرف أحد «نجوم» اليسار السابقين نيل كينوك (زعيم الحزب بين 1983 و1992) بنفسه على ضرب الجماعات المتطرفة (ماركسيون وتروتسكيون) وإعادة الحزب إلى خط الواقعية السياسية.
وللعلم، بعد خسارة العمال بزعامة كينوك أمام المحافظين بزعامة جون ميجر في انتخابات 1992، تنحى كينوك وسلم الدفة إلى «الوَسَطي» جون سميث بعدما كان قد مهّد له الطريق، وأراحه من مشاغبة المتطرفين وتكتلاتهم المعطلة. غير أن سميث توفي فجأة بنوبة قلبية عن 55 سنة عام 1994، فحل محله «وَسَطي» آخر هو توني بلير الذي تمكن من قيادة الحزب عام 1997 إلى ثلاثة انتصارات انتخابية متتالية.
طبعاً، النادلة الشابة لا تتذكر شيئاً عن هزيمة 1983... حتى وإن تذكّرها كوربين.
كل ما تتذكّره هي وأبناء وبنات جيلها أن بلير - حسب قولها - «يميني انتهازي تزيّا بزي العمال» و«خان الطبقة العاملة»، ثم استزلم لجورج بوش الابن وسار معه كالتابع في سياساته وحروبه الخارجية.
وعندما حاولت مجادلتها، بناء على «خبرتي» المستقاة من كوني شاهداً على تلك الحقبة، قلت لها: «بصراحة، المشكلة مع جيريمي - الذي أعرفه وكنا على صداقة - أنه غير قادر على ربح الانتخابات»... فأجابتني: «كيف لك أن تجزم في هذا؟... إنه محبوب، والدليل عدد طلبات الانتساب التي انهمرت على الحزب بعد انتخابه».
وعدت لأشرح لها: «إن هؤلاء لن يضيفوا شيئاً للحزب، فهم أصلاً معه وسيصوّتون له على أي حال، كما أنهم لا يشكلون أي قيمة مضافة، بل على العكس سينفّرون كثرة من الناخبين الوسطيين غير الملتزمين، ويدفعونهم دفعاً نحو المحافظين»... لكنها أجابت: «لا، كثيرون امتنعوا في الماضي عن التصويت لأنهم ما كانوا يرون أي فارق بين بلير والمحافظين. اليوم هناك حماسة ما كانت موجودة. أمثالي متحمسون للتغيير..!».
عليَّ أن أعترف أنني، في حينه، لم أقتنع بما قالته لي تلك النادلة الشابة البسيطة. ولكن أموراً كثيرة حصلت منذ ذلك الحوار ألقت غلالة من الشك على تقييمي لديناميكيات الحياة السياسية والتجربة الديمقراطية في الدول الغربية.. 
منذ «مفاجأة» تصويت البريطانيين لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، و«زلزال» فوز دونالد ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية، وأخيراً إخفاق مرشحي الجمهوريين «الديغوليين» والاشتراكيين؛ فرنسوا فيون وبونوا هامون، ببلوغ الجولة النهائية من انتخابات الرئاسة الفرنسية، غدا واضحاً أن ثمة تياراً يتنامى تجاوز مرحلة الاعتراض... ليصل إلى فرض التغيير.
نحن أمام حالة انقلابية على المفاهيم والممارسات. النخب السلطوية فقدت حصانتها. عولمة الرأسمالية «استولدت» أعداءها. الانتخابات الحرة، التي ألفناها سلاح استقرار وتفاهمات عريضة مسؤولة، يستخدمها اليوم مَن كانوا تسلّطيين ومهمّشين، يميناً ويساراً، سلاحاً يسدّدونه إلى صدر الديمقراطية ومؤسساتها.
وبالتالي، بصرف النظر عما سيقرره الناخبون البريطانيون بعد بضعة أيام (8 يونيو/ حزيران)، لا بد من القول إن تغييراً حقيقياً طرأ ويمكن أن تستمر مفاعيله في السنوات المقبلة. فظواهر مثل «بريكست» ما كانت معزولة، وكذلك بروز دونالد ترمب وبيرني ساندرز في الولايات المتحدة، وإيمانويل ماكرون ومارين لوبان في فرنسا..
وبانتظار ما سيحصل يوم الخميس المقبل، أرى من الحكمة تذكر مقولتين سياسيتين شهيرتين وحكيمتين لرئيس الوزراء العمالي السابق هارولد ويلسون؛ الأولى أن «المعارضات لا تكسب الانتخابات، بل الحكومات هي التي تخسرها»... والثانية أن «الأسبوع فترة طويلة جداً في دنيا السياسة!».