سمير عطا الله 

... وهناك، يا مولانا، حكاية المحكومين، أو المنفيين. وهي ليست من «ألف ليلة وليلة»، بل من هذا التاريخ القريب، في القرن الثامن عشر، ومن بداياته إلى نهاياته. لقد خُيِّل للبريطانيين أن أفضل وسيلة لإبعاد الأشرار والمجرمين والمدانين هي إبعادهم جميعاً. إلى أين؟ إلى أبعد الأمكنة المعروفة في الأرض.
يومها، كانت هذه الأمكنة واقعة فيما يسمى الآن الولايات المتحدة وكندا وأستراليا. لكن بعد استقلال أميركا عن بريطانيا، قال الأميركيون للمستعمرين السابقين: مهلاً. مهلاً. لا نريد سجناءكم بعد اليوم! وهكذا، بقيت أمامهم كندا وأستراليا. وصارت السفن البريطانية تصل إلى تلك الديار المجهولة وعليها حرامية وقتلة ومحتالون ومخاليق من هذا القبيل. لكن الأجيال، يا مولانا، تتغير. المحتال لم يلد بالضرورة محتالاً. وأبناء السارق ذهبوا إلى المدارس، وتعلموا مهنة. وأبناء المهنة طوروا الحالة الاقتصادية. والحالة الاقتصادية المتطورة أفضت إلى حالة اجتماعية مليحة. وهكذا دواليك، على ما قالت العرب، في وصف طبيعة السير إلى الأمام. والعكس وصفته بالتخلف، لأن من لا يتقدم يبقى في الخلف، بفتح الخاء. فنحن كما تعلم، لغة المجانسة، بين بدائع أخرى. لأن الخاء بالضم تصبح الخُلف، أي العبث. وفي هذا الباب، اسمح لي أن أفضل الأولى على الثانية لأنها أكثر دقة وأداء.
وفي أي حال، كان نفي المحكومين رمية من غير رامٍ، وحظاً سعيداً للجميع. فقد أرسلوا إلى أستراليا وكندا لأن أفريقيا، في ذلك الزمن، كانت «مقبرة الرجل الأبيض» بسبب الأوبئة التي ليس محصناً ضدها. وبين عقد وضحاه، تحولت مجتمعات المحكومين إلى مجتمعات المتقدمين، وصار للرجل الأبيض في أميركا وآسيا دول إضافية، أكثر تقدماً أحياناً من البلدان الأم في أوروبا. وأكثر غنى.
لا أذكر كم مرة سافرت إلى كندا، لكنني أذكر أنني عوملت في المطار دائماً بالود الكندي. ويبدو أن المهاجرين، خصوصاً العرب، استنفدوا هذه الطاقة عند الكنديين في الآونة الأخيرة. فعندما سافرت لزيارة شقيقي منير في أوتاوا، العام الماضي، وجدت استقبالاً مختلفاً تماماً. واختار موظفو الجوازات ثلاثة من ركاب رحلة نيويورك لطرح المزيد من الأسئلة، ثالثهم الداعي لكم بطول العمر.
كانت الأسئلة جافة، إنما مستقيمة. وكان الموظف يعلق اسمه على صدره: منزيس. وفي النهاية، قال لي، من دون اعتذار، وبالمزيد من الجفاف، إن ثمة التباساً في اسم العائلة. وكنت منهكًا من رحلة عاصفة من نيويورك، فقلت للمستر منزيس: إن الأسماء لا تعني شيئاً في الغالب. ففي أستراليا، عائلة منزيس في رئاسة الوزراء وزعامة البلاد، وليسوا مثلكم هنا في إهانة الضيوف. وفكرت كيف تتحول أصول المحكومين بين بلدين.