موسى برهومة

المدقق في هويات وخلفيات الإرهابيين الذين يرتكبون العمليات الإجرامية، ستتمكّن منه الحيرة، لأن تاريخ كثيرين من أولئك الإرهابيين لا يوحي بنوازع جرمية مبكرة، ولا باضطراب سلوكي، أو مشكلات في التنشئة الاجتماعية، فبعضهم (أسامة بن لادن مثلاً) تربى في بيئة مترفة، وورث ثروة هائلة، ونال حظاً من الدراسة، ولم يلاقِ أي عنت في طفولته. أي أنه عاش على نحو طبيعي لا يوحي بأنّ مآلاته ستجعله المطلوب الرقم واحد لأكثر أجهزة الاستخبارات في العالم. ويمكن في ضوء ذلك معاينة تواريخ شخصية لمرتكبي عمليات إرهابية لا يكاد يخلو أسبوع منها، لا سيما تلك المرتكبة في أميركا وأوروبا، فكثير من هؤلاء الذين أضحوا إرهابيين لم يكونوا تعرّضوا لأية مساءلة أمنية أو احتجاز، وتكاد تخلو سجلاتهم من أي قيد مريب.

ومن شأن ذلك أن يجعل الأمر أصعب أمام أجهزة الأمن التي عادة ما تُخضع الإرهابيين المحتمَلين للرقابة والمتابعة، لأنّ لديهم دوافع جرمية، وقد يكونون تعرضوا لخبرات قاسية في الطفولة، أو انخرطوا في أعمال شغب أو جرائم، أو تميّزوا بسلوك عدواني، أو سوى ذلك.

بيْد أنّ ما يبعث على الحيرة أنّ بعض «الإرهابيين» الذين حملوا هذه الصفة مباشرة بعد ارتكاب أعمالهم، كان بشراً عاديين، ولربما يكونون ارتكبوا إرهابهم بالعادية ذاتها، ما أربك قوى الأمن والاستخبارات، وجعل عملها ضرباً من التقدير الذي يخضع لسلسلة لا متناهية من الاحتمالات!

ثمة من راح ينعت هؤلاء بـ «الذئاب المنفردة»، لكنّ حالة الذئبية، وهي حالة ذهنية، لا تشترط معايشتها لصاحبها فترة طويلة، ولعل الذئبية المفرطة في نرجسيتها والمتماهية مع موت افتراضي يقود إلى عوالم ماورائية مشبعة بالوعود، ليست وليدة مخاضات طويلة، وإنما ثمرة قرار لحظي جعل صاحبه يستقلّ سيارة أو حافلة ويتوجّه بها إلى مكان مزدحم فيدهس من استطاع إلى ذلك سبيلاً، وربما يقضي نحبه، وهذا الاحتمال الأكبر والمشتهى لدى ذلك الذي أراد أن يرفع انتحاره إلى درجة الشهادة.

ولئن كانت الصورة على هذا النحو، فإنّ أي شخص هو إرهابي محتمل، وهذا افتراض مخيف يقود إلى نتائج وخيمة، فليس في وسع أي جهاز أمني أن يخصّص شرطياً لكل مواطن، كما أنه ليس في وسع أحد أن يتخيّل أنّ كلَّ من يقود حافلة يمكنه أن يكون قاتلاً، لا سيما وأنّ الدوافع الإرهابية صارت على مستوى الإقناع والتبرير، أوهى من خيوط العنكبوت، وسقطت معها ذرائع علماء النفس والاجتماع الذين يقيمون علاقة حتمية بين الإرهاب والتنشئة والخلفيات السلوكية والمرجعيات الدينية والأيديولوجية، مع أنّ بعض العمليات الإرهابية جرت في منأى عن أية سردية سببية مقنعة، ولا يغرنّنا إعلانات «داعش» عن تبنيها تلك العمليات، أو أنّ بصماتها (كما يقول الخبراء!) واضحة على هذا العمل الإرهابي أو ذاك.

ويستتبع الأمر السابق أمرٌ في منتهى الخطورة يجعل «داعش» أسطورة، ويحمّله مسؤولية أية حادثة إرهابية ولو جرت على كوكب المريخ، فهذا نفخ شيطاني في هذا التنظيم الذي اطمأن إلى صورته المتوحشة، فصار من حسن حظه، أن يُنسب كل فعل إرهابي إليه، مع أنه ربما لا يرتبط بأية علاقة، لا من قربب ولا من بعيد، بمرتكب العمل الإرهابي الذي يكون في أغلب المرات في عداد الموتى، ما يجعل روايته تدفن مع جثته، أو ما تبقى منها!

الإرهاب، في أشكاله التي رأيناها ويعدنا المستقبل ربما بأشكال أخرى، فعل مدمّر لا ينفّذه إلا الضعفاء، وينأى عنه الأقوياء. وربما يكون الضعف، هاهنا، ثمرة مباشرة لانكسار أو عزلة أو ضيق، أو انسداد أفق، وقد يكون لأسباب أقل شأناً من ذلك بكثير حتى ليحار المحلل والمحقق في الدوافع، كما يحار وهو يبحث في التاريخ النفسي للشخص الإرهابي فلا يعثر إلا على مسار خيطي لا التواء فيه، وهذا بالضبط ما يصيب النتائج والتوقعات في مقتل!


* كاتب وأكاديمي أردني