إياد أبو شقرا 

 مهما بلغت المكابرة، فإنها ستصطدم بالواقع عاجلاً أو آجلاً. وعندما يخسر حزب المحافظين البريطاني غالبيته البرلمانية في انتخابات مبكرة دعا إليها، بل يخسر أيضاً مقعد دائرة مثل كنزينغتون في قلب لندن الغني... فلا بد من تقبّل الحقائق.
أهم هذه الحقائق أنه للمرة الثانية خلال سنتين راهن رئيس حكومي محافظ على مزاج المواطن، وللمرة الثانية خسر الرهان، وزجّ بالبلاد في أزمة حكم.
خلال العام الماضي صوّتت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء ما كان له ما يبرّره، إذ وعد رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون تحت ضغط الذعر من تصاعد شعبية حزب استقلال المملكة المتحدة (يوكيب)، وتوهّماً منه بأنه إذا هرب إلى استفتاء سينتهي لصالح البقاء فإنه سيُخرس خصومه المناوئين لأوروبا داخل الحزب، ويجهض «شعبوية» حزب «يوكيب» بعد قطع الطريق على مطالبه.
إلا أن رهان كاميرون فشل فشلاً صادماً عندما صوّت البريطانيون لصالح الخروج بعد وقوف تيارات كبيرة من «حمائيي» اليسار و«عنصرييه الجدد» صفاً واحداً مع «انعزاليي» اليمين و«عنصرييه القدامى» ضد البقاء في أوروبا!
وفي ضوء هذه النتيجة استقال كاميرون، وأسند المحافظون قيادتهم ورئاسة حكومتهم إلى وزيرة الداخلية - يومذاك - تيريزا ماي، وعلى الفور أعلنت ماي اعتزامها بدء التفاوض على الخروج. وأيضاً ارتفعت أصوات القوميين الاسكوتلنديين، الذين كانوا قبل فترة قصيرة قد خسروا بفارق ضئيل استفتاء على الاستقلال عن بريطانيا، فطالبوا بحقهم في استفتاء استقلال ثانٍ، لا سيما أن غالبية الاسكوتلنديين صوّتوا في استفتاء الخروج لصالح البقاء في أوروبا.
في هذه الأثناء، كان الحراك السياسي داخل كل الأحزاب البريطانية الرئيسة يغلي ويعيد تحديد الأولويات، ويرسم خطوط تمايز جديدة.
في حزب المحافظين ازداد الانقسام وضوحاً بين جناح المتحمّسين لإكمال مغادرة أوروبا، وجناح مناصري البقاء ضمن الأسرة الأوروبية. وبينما كان ثمة شبه إجماع على السير، ولو مرحلياً، وراء ماي بأمل تغطية الشروخ والتفسخات الحزبية، كان كثيرون مؤمنين بأن الخلاف المزمن داخل الحزب إزاء العلاقة مع أوروبا لم ينتهِ بنتيجة الاستفتاء.
كذلك، في حزب العمال المعارِض غدا المشهد أكثر إثارة. فلقد أكمل الجناح اليساري المتشدد هيمنته على قيادة الحزب في وجه تشكيك معتدلي الحزب بقدرة زعيمه اليساري الجديد جيريمي كوربن على إعادة الحزب إلى الحكم. وكحال المحافظين، كان واضحاً وجود انقسام عميق في صفوف حزب العمال إزاء أوروبا، وكذلك داخل القواعد الحزبية بين جيل الشباب وجيل كبار السن، والجماعات المثقفة وفئة العمال اليدويين، ومعاقل العمال التقليدية في الشمال وإقليم ويلز... ومناطق نفوذه المتجدد في جنوب إنجلترا.
ولئن كان المشهد داخل حزب الديمقراطيين الأحرار الوسطي أقل دراماتيكية من المشهدين المحافظ والعمالي، فإن ناشطي الحزب كانوا يأملون أن يخلّصهم زعيمهم الجديد تيم فارون من آثار هزيمتهم الساحقة في انتخابات 2015، وأن يستفيدوا من جنوح العمال يساراً... باجتذاب نسبة معقولة من العماليين المعتدلين والليبراليين.
وأخيراً، عبر الحدود بين إنجلترا واسكوتلندا، بدأ الحزب القومي الاسكوتلندي يعدّ العدة ويضغط لاستفتاء ثانٍ على الاستقلال عن سلطة لندن، تحت قيادة زعيمته الديناميكية الشابة نيكولا ستيرجن، التي خلفت الزعيم السابق أليكس سالموند إثر استقالة الأخير متحملاً مسؤوليه فشل استفتاء الاستقلال الأول.
ولكن خلال هذه الفترة ما كان الغليان حكراً على المشهد السياسي البريطاني الداخلي...
ذلك أن الولايات المتحدة شهدت ظاهرتين مدهشتين خلال حملة الانتخابات الرئاسية، هما صعود الشعبوية السياسية المناوئة للعولمة يميناً ويساراً، وترهّل «المؤسسة» السياسية التقليدية وعجزها عن مواجهة «هجوم» تلك الشعبوية. وحقاً، استطاع دونالد ترمب أولاً انتزاع ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة الأميركية ضد أبرز ساسة «المؤسسة» الحزبية، ثم الفوز بالرئاسة متغلباً على منافسته وزير الخارجية السابقة هيلاري كلينتون. وأيضاً في صفوف الحزب الديمقراطي، استطاع سياسي يساري يهودي سبعيني ليس في الأساس عضواً في الحزب هو السناتور بيرني ساندرز... تحدي كلينتون، والظفر بتأييد نحو 40 في المائة من الديمقراطيين تحت شعارات يسارية شعبوية أشعلت حماسة جيل الشباب وجنّدتهم في خدمته.
المشهد نفسه تقريباً تكرّر في فرنسا، حيث أخفق مرشحا حزبي «المؤسسة» الجمهوري - الديغولي (يمين) والاشتراكي (يسار) في بلوغ الجولة الحاسمة من انتخابات رئاسة الجمهورية، وانتزع الفوز مرشح شاب اسمه إيمانويل ماكرون خرج للتو من تحت عباءة الاشتراكيين ليؤسس حركته الشعبية الشبابية «إلى الأمام». وها هو ماكرون اليوم يعيد رسم خارطة السياسة الفرنسية برمّتها بقوة دفع حركته.
كل هذه التطورات، داخل بريطانيا وخارجها، مع تصوّرها ضعف حزب العمال، فاتت تيريزا ماي تماماً عندما قرّرت الرهان على إجراء انتخابات عامة مبكرة أملت منها تعزيز تفويضها وطنياً، وزعامتها حزبياً. ولكن كما بيَّن الاختبار الانتخابي يوم الخميس الماضي انتهى الرهان - المغامرة بفشل ذريع... وانتحار سياسي شبه مؤكد.
فحزب المحافظين خسر غالبيته المطلقة وهو الآن مضطر لاستجداء السير مؤقتاً بـ«حكومة أقلية»، ريثما تتكامل المناورات لاختيار مَن يخلف ماي في زعامة الحزب. وحزب العمال، رغم إخفاقه بتحقيق الفوز، استطاع توسيع قاعدة جذبه، وبالذات في جنوب إنجلترا وويلز، وهو ما عزّز موقع كوربن وطروحاته اليسارية التي حمّست الشباب وشجعتهم على الاقتراع.
وإذا كان الديمقراطيون الأحرار حققوا تحسناً محدوداً في وضعهم الانتخابي، فأكبر الخاسرين في انتخابات الأمس - بجانب ماي وحزب المحافظين - كانا الحزب القومي الاسكوتلندي وحزب «يوكيب». الأول خسر أكثر من ثلث مقاعده البرلمانية (تراجع نصيبه من 56 إلى 35 مقعداً) بينها مقعد زعيمه السابق سالموند، وانهار حلمه باستفتاء جديد لحصوله على أقل من 36.9 في المائة من الأصوات. أما الثاني، الذي كان قد أسس من أجل قضية واحدة تحققت باستفتاء الخروج، فلم يفز بأي مقعد، وعاد ناخبوه إلى أحزابهم الأصلية، وبالأخص حزب المحافظين. ومن ثم، استقال زعيمه بول نتال قبل أي مساءلة.
كلمة أخيرة...
بريطانيا تتغيّر، وبسرعة أكبر مما يتصوّر ساستها... وهذا ما يفسّر الرهانات والمغامرات الخاطئة.