عبدالله ناصر العتيبي

سأؤجل قليلاً الإجابة على سؤال العنوان، وأبدأ بهذا المجتزأ من مقالة كتبتها في هذه الصحيفة في 5 أيار (مايو) 2014 بعنوان «الأشرطة المسربة وراء تنحي الشيخ حمد»: «في تقديري كوني راصداً للأوضاع الخليجية - الخليجية، أن تنحي الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني عن حكم قطر واستبداله بابنه الشيخ تميم كان صفقة واجبة العقد منذ أشهر بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى، لضمان الحفاظ على العلاقات بين الجيران -وإن في أدنى مستوياتها- بعد تسرب بعض التسجيلات الصوتية للشيخ حمد بن خليفة ووزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم يتعرضان فيها بسوء للدول الثلاث. تنازل الشيخ حمد عن السلطة غير متعلق برغبة أميركية غربية كما أشيع، وليست له علاقة برغبة داخلية قطرية لضمان الانتقال السلس للجيل التالي من الأسرة الحاكمة، كما علّق الإعلام القطري. وبالطبع لا علاقة للأمر بصحة الشيخ حمد كما نشرت بعض الصحف، فصحة الشيخ حمد ونشاطه في أوج تمامهما كما يعرف الجميع.

كل ما في الأمر أن عربة التعاون وصلت إلى طريق مسدود، وكان لا بد من تغيير المسار! اعتقدت الدول الثلاث أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال العمل من جديد مع الشيخ حمد بن خليفة والشيخ حمد بن جاسم -بوصفهما رقمين- بعد انكشاف أمر الأشرطة، وأدرك القطريون أنه يستحيل ترميم علاقتهم بجيرانهم ما لم يتخلصوا من سبب المشكلة، لذلك بادروا إلى تبني عملية التحول الإجباري في الحكم، لكنهم في المقابل اشتغلوا من خلال إعلامهم على تخفيف حدة هذا الهبوط المفاجئ لطائرة القيادة القطرية، من خلال تمرير مصطلحات كبيرة من نوع «رؤية الشيخ الوالد الطليعية»، و «نظرته الثاقبة»، و «التجربة الجديدة في المنطقة»، و «تسليم السلطة للجيل الجديد»، وغيرها من المبررات الكلامية»... انتهى.

أستعيد هذا الجزء من هذه المقالة القديمة لثلاثة أسباب: الأول أن دول الخليج الثلاث، السعودية والإمارات والبحرين، لم تؤكد (وبالمناسبة قطر لم تنفِ) صحة تسجيلات الشيخ حمد بن خليفة ورئيس خارجيته الشيخ حمد بن جاسم مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي عند ظهورها على الملأ للمرة الأولى، وأبقت تفاصيل أحداث ما تلاها تحت الطاولة وبعيداً من عيون الإعلام لتتمكن القيادة القطرية من استعادة دورها الخليجي بقائد جديد. فعلت ذلك كي لا يؤدي تأكيد صحة هذه التسجيلات إلى شرخ العلاقة الخليجية– الخليجية إلى الأبد. اختارت السعودية وشقيقاتها أن تتجرع المرارة وتتوسد خيبة الأمل من أجل إنقاذ ما تبقى من تاريخ و«ود وصلة رحم» وعمل مشترك، لكن عندما تبيّن لها أن قطر ماضية في مشروعها التآمري، كشفت عن هذه الأشرطة عبر إعلامها الرسمي واستعادت ملفات هذه القضية من جديد للضغط على الدولة الشقيقة علناً وعلى رؤوس الأشهاد أولاً لتراجع سياساتها الإقليمية، وليعرف العامة من الناس ثانياً ما كان يحدث في خفاء العلاقات الخليجية، وكيف كانت مواقف جميع الأطراف المعنية حينها من هذه الأزمة. وبالمناسبة، فإن الأشرطة المسربة وإن انتشرت بشكل فايروسي في حسابات التواصل الاجتماعي في الأشهر الأولى من عام 2014، إلا أنني أظن أن السعودية وشقيقاتها كانت على علم بها منذ سقوط معمر القذافي، لأن التسريب كما يبدو جاء من الجانب الليبي، وأمضت السنوات بعد اكتشاف التسريبات وحتى تنحية حمد في صياغة حل مشترك يُبقي قطر ويُبعد مختلقي المشكلات لقطر ولجيرانها.

السبب الثاني لاستعادة هذا الجزء من المقالة هو الإشارة إلى أن قطر كانت تراهن على أمر في غاية الانتهازية وهي ماضية في مشروعها الإقليمي، وهو الاستفادة قدر الاستطاعة من حكمة دول الخليج وصبرها الطويل وعدم رغبتها في أن تتوقف عربة التعاون في المجلس الخليجي لأي سبب!

أما الثالث، فيتمثل في أن التخريج الذي رأته دول الخليج حلاً للمشكلة المعقدة آنذاك بتنحية «الحمدين» من السلطة، ليس بالضرورة واجب التطبيق في هذه المرحلة، فالمطلوب -بحسب الرؤية الخليجية الجديدة والواضحة جداً- هو أن تتعهد قطر بأميرها الحالي أن تتوقف تماماً عن دعم الجماعات الإرهابية وتعود من جديد إلى الحضن الخليجي وتعمل من أجل مصلحة المجموعة ولا تتآمر على زعزعة أمن الجيران. ما زالت دول الخليج تضع الكرة في ملعب الشيخ تميم، وتتمنى عليه النظر إلى المستقبل والتخلص من إرث السياسة «الحمدية» بشقيها، وإبداء حسن النوايا بضمانات موثوقة واحترام طبيعة السياسات الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي.

وأعود بعد هذه المقدمة الطويلة لأجيب على سؤال العنوان: لماذا «تتنمر» قطر... لماذا «تتنمر» إيران؟

إيران مثل قطر، لكل منهما حكاية حول «التنمر»، لكن الدولتين تختلفان في طبيعة «التنمر» وتفاصيل الحاجة إليه!

إيران تسعى دائماً لإحداث اضطراب خارجي كي تحفظ توازنها في الداخل. تسعى لإشغال الشعب المسحوق والمعدم بالوطنية القادمة من وراء الحدود لتضمن ولاءه الدائم للنخبة الحاكمة التي اغتصبت الحكم في عام 1979 تحت غطاء الجمهورية الديموقراطية ثم احتفظت به حتى الآن تحت غطاء الثورة.. وتصدير الثورة.. ومساعدة المستضعفين في الخارج من الطائفة الشيعية.. والاتصال بالله سبحانه وتعالى عبر المرشد الأعلى للثورة الخمينية.

إيران تستخدم حالة الطوارئ الدائمة لتتقي غضبة شعبها في الداخل فيما لو استقرت الأمور خارجياً وعاد الشعب إلى الداخل مجرداً من انتمائه المذهبي ووطنيته المستوردة ووقف وجهاً لوجه أمام اقتصاده الهش ومؤسسته السياسية السجينة في دوائر الراديكالية.

«تتنمر» إيران خارجياً بالارتباط بالجماعات الإرهابية السنية والشيعية لتحقيق أهدافها على الأرض من أجل تحييد شعبها المؤمن بالأسس الجمهورية المنظمة لتداول السلطة. فلماذا «تتنمر» قطر يا ترى وهي الدولة التي يعيش شعبها في رفاه عظيم، وتتمتع قيادتها من أسرة آل ثاني بتوافق شعبي كبير وبشرعية لا خلاف عليها من مختلف النخب القطرية؟

القيادة القطرية تفعل ذلك في تقديري لأحد السببين التاليين أو كليهما: الأول يتمثل بأنها تسعى إلى استلهام تجربة إيران، لا لتخدير شعبها كما تفعل الدولة الفارسية، وإنما لإشغال أجهزتها الاستخباراتية والعسكرية كي تقطع الطريق على المحاولات الانقلابية الداخلية كما جرت العادة في تغيير نظام الحكم فيها منذ استقلالها حتى الآن. الشيخ تميم وقبله الشيخ حمد يظنان أن الدفع بالمجهود الاستخباراتي الداخلي خارج البلاد وإبقاء المؤسسة العسكرية في حال ارتباط دائم بمشاريع خارجية يقيانهما الخروج من «قصر الوجبة» على الطريقة القطرية الحديثة! تفعل القيادة القطرية ذلك بلا استراتيجية واضحة ولا أهداف خارجية محددة وهذا ما يفسر تناقض مشاريعها السياسية من دولة إلى أخرى وارتباطها العشوائي بمنظمات وجماعات تحمل أفكاراً ومعتقدات متضادة.

أما السبب الثاني، فيتمثل بالبحث عن دور ذي أهمية على المستوى الإقليمي، فكل الشروط متوافرة لتحقيق ذلك: المال الوفير اللازم لتجنيد الجماعات والمؤسسات السياسية في الخارج.. والشعب المتنعم المطيع لقيادته.. والظروف الإقليمية غير المستقرة والمتغيرة .. وأخيراً البطالة السياسية التي يعيشها نظام الحكم هناك، فلا تحديات داخلية كبيرة ولا تهديد متوقع من الجيران الكبار!