هادي اليامي

علينا التسامي فوق كل الخلافات المصنوعة، والتغاضي عن الاختلافات الشكلية، والانتصار للدين بمفهومه الواسع، والانحياز لأرض الحرمين

دعوة كريمة أطلقها إمام وخطيب مسجد قباء بالمدينة المنورة، الشيخ الفاضل الدكتور صالح بن عواد المغامسي، أكد فيها أن السنة والشيعة والإسماعيلية والإباضية يؤمنون بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وأنه حري ألا يكون بينهم اقتتال وسفك دماء. ورغم أن الغلاة من كافة الأطراف سارعوا – كما هو متوقع – إلى مهاجمته والرد عليه بشنيع القول، إلا أنها تبقى دعوة صادقة تستحق الوقوف عندها والتأمل فيها، لاسيما أنها تأتي في وقت تتزايد فيه دعوات رخيصة للتمترس خلف العنصرية والطائفية البغيضة التي أقعدت كثيرا ممن حولنا من الدول، بعد أن أذكت دول بعينها وتيارات معروفة دعاوى الفرقة، فتفشت أعمال الإرهاب التي لا تفرق بين الناس، وتستحل دماءهم المعصومة التي يأمر ديننا الحنيف بصيانتها، ويتشدد في الاعتداء عليها وإراقتها. لا يقتصر تاريخ الصراعات المذهبية على المسلمين دون غيرهم، ففي قرون سلفت شهدت أوروبا صراعات دموية عنيفة بين المسيحيين الأرثوذكس ونظرائهم الكاثوليك والبروتستانت، سقط فيها عشرات الملايين من القتلى والجرحى بين الجانبين، وتحضر في الذاكرة حرب الثلاثين عاما التي شهدتها أوروبا خلال القرن السابع عشر الميلادي، وأسفرت عن خسائر فادحة بالعديد من الدول مثل ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وغيرها، ولا تزال تلك الخلافات موجودة بين الجانبين، وإن كانت حدتها قد خفتت. وإذا كانت تلك الصراعات الدموية قد وقعت في عصور الظلام التي كانت تعيشها أوروبا في ذلك الوقت، فلا عذر لنا أن نبذر بذور الحرب الطائفية في هذا العصر الذي انتشر فيه العلم والنور، وسادت فيه حقوق الإنسان الأساسية التي رسختها الشريعة الإسلامية قبل أي صكوك أو معاهدات دولية وأكدتها الوصايا النبيلة لسيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
تنعم بلادنا والحمد لله بحكومة عادلة، بذلت الجهد لإذابة تلك الخلافات ومنعت في النظام الأساسي للحكم كل أشكال التمييز بين مواطنيها، وهذا من الثابت الذي لا يحتاج إلى إعادة تأكيد، لكن استجدت على المنطقة وقائع وأحداث فرضها وجود قوى إقليمية – وبالذات إيران وأذرعها التي تعمل في العلن والخفاء من ثورة العمائم المزعومة – تحاول اللعب على وتر الخلافات الطائفية والتباين المذهبي، رغم أن ذلك التباين والتنوع كان مصدر قوة لمجتمعنا، ولم يكن هذا الاختلاف حتى وقت قريب مصدرا للفرقة والخلاف، وكان كل مواطن – بغض النظر عن مذهبه أو توجهه – يشعر في قرارة نفسه بأنه مواطن مكتمل الحقوق، يتمتع بما يحظى به مخالفوه، تسنده في ذلك القوانين المرعية والأنظمة الحكومية، إلا أن مجيء النظام الإيراني والقوى التي تدعمه عملت على إثارة ذلك الاختلاف وتحويله إلى خلاف، واستخدمت طهران لأجل تمرير ذلك المخطط بعض مواطني الدول العربية، من قليلي الولاء، واستغلتهم ضد حكوماتهم، بحجة حماية الأقليات وتمكينها من حقوقها، بينما تعاني الشعوب الإيرانية من غير الفارسية تمييزا واضحا وهضما للحقوق.
ولأن لكل فعل رد فعل، فقد ظهرت التنظيمات الإرهابية، لاسيما بعد تزايد التدخلات الإيرانية في شؤون الدول العربية، وانتشرت ظاهرة التفجيرات التي تستهدف المساجد ودور العبادة، لاعتبارات طائفية ومذهبية بحتة، ورغم أن الدولة أظهرت عزماً لاجتثاث تلك الظاهرة، وقدمت المتورطين إلى محاكم عادلة، اقتصت منهم وأوقعت بهم الجزاء العادل، إلا أن هناك دوراً على عاتق علماء الدين من كافة المذاهب القيام به، يتمثل في إظهار الصورة الحقيقية للدين الإسلامي، الذي يرفض الإقصاء، ويحض على التعايش حتى مع أصحاب الديانات والملل الأخرى، ناهيك عن المسلم الذي يتفق مع غيره في توحيد الله عز وجل، ورسالة نبيه عليه الصلاة والسلام، والقبلة الواحدة التي يصلي إليها الجميع، ويحتفظ لنفسه بالحق في التفكير، ما دام في إطار الدين الواحد. وعلى علمائنا الثقاة الأجلاء توحيد الكلمة في هذا الإطار، والابتعاد عن الاختلافات غير الجوهرية، وإدراك أن مهمتهم أعظم من غيرهم، ودورهم أكبر وأجل من غيرهم. وبذلت الدولة خلال السنوات الماضية جهودا كبيرة لأجل ترسيخ هذا المفهوم، فعقدت مؤتمرات الحوار الوطني، التي شارك فيها الجميع، سنة وشيعة، سلفيين وصوفيين وإسماعيليين وغيرهم، تبادلوا فيها الآراء، وتحدثوا بصدق وحرية وأمانة ومسؤولية، واتفقوا في النهاية على أن هذا الوطن يستحق من جميع أبنائه العمل على صون وحدته، وإحباط المحاولات الرامية إلى تصنيف بناه، وفق اعتبارات تفرق كلمتهم ولا تجمعها، وتضعف وطنهم ولا تقويه. فكانت تجربة الحوار الوطني غير مسبوقة، وأثمرت عن توصيات نحن في حاجة إلى إنفاذها على أرض الواقع، وإجازتها في شكل قانوني ملزم، حتى لا تكون مجرد أحاديث تناولتها النخب الثقافية وانتهى أثرها عند هذا الحد.
الآن، وفي ظل ما كشفته الأجهزة المسؤولة عن وجود محاولات من دول غير إيران، تسعى لتمزيق الوطن، وتقدم المساعدات المالية والسلاح لبعض أبنائه، وتحرضهم على القيام بأعمال تخريبية، وفي ظل تزايد تيارات الإرهاب التي تزعم نصرة مذهب على آخر وعقيدة على أخرى، ما أحوجنا إلى مراجعة للنفس، نتصدى فيها لتلك المحاولات المأجورة، ونقف في وجه عدونا المشترك، ونثبت فيها للعالم أجمع أن أرض الحرمين عصية على كل من يريد لها السوء، وقوية في وجه المحاولات الفاشلة التي يقوم بها من اشتعلت نفوسهم حقدا وحسدا ضد هذا الوطن، وساءتهم النجاحات التي يحققها بنوه، والنهضة التي تنتظم كافة أرجائه. علينا التسامي فوق كل الخلافات المصنوعة، والتغاضي عن الاختلافات الشكلية، والانتصار للدين بمفهومه الواسع، والانحياز لأرض الحرمين التي شرفها الله بأن تكون مهبطا لوحيه ومنطلقا لرسالته الإسلامية، وليحتفظ كل منا بتفسيره الخاص الذي لا يتعارض مع الدين في مفهومه الصحيح، ولنتعاهد على مبادرة وطنية لتأصيل هذه الجهود وتقنينها بما يضمن سلامة ووحدة الهدف، وصون الوحدة والأنفس، وتغليب حب الوطن والذود عن ترابه على ما عداه من أهداف فئوية ضيقة ورخيصة، ويقيني أن نجاحنا في تحقيق هذا الهدف سوف يكون دافعا للآخرين على تكرار نفس التجربة، فلطالما كانت بلادنا نموذجا يحتذي بها الآخرون، ويقتفون خطاها.
من أبرز ما قرأته للشيخ المغامسي قوله «القلوب لا يصلحها شيء أعظم من كلام ربها»، والله عز وجلاله يقول «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا»، فلا يزايدن أحد على منهاج الله في الوحدة والتعايش والسلام، فلله درك يا شيخ صالح وأحسن الله لك في علمك ومآلك.