رجاء عالم

لعل مدينة جدة هي المدينة الأولى بالمملكة التي بدأت فأفسحت للفن أن ينتشر في هوائها الطلق وساحاتها العامة، وشرع في ذلك عمدة المدينة الأشهر المهندس محمد سعيد فارسي والذي أدخل مدينة جدة كتاب غينيس للأرقام بتحويل ميادينها لأكبر متحف مفتوح يحوي أعمال عمالقة الفن العالمي جنباً إلى جنب مع أعمال فنانين عرب، إذ مبكراً ومنذ تسلمه لأمانة جدة عام 1972 شرع الفارسي في إثراء الفضاء الجمالي لعروس البحر بتشجيع التجار لاقتناء والتبرع للمدينة بأعمال فنية عالمية مهمة تم توزيعها بطول الكورنيش وفي الميادين العامة، إذ لا تصدق أنك تتجول حول مجسم ضخم للفنان فازاريللي أو تنفتح نوافذك على منحوتة للفنان خوان ميرو أو كاندينسكي أو هنري مور، ثروات فنية كسبتها جدة.

وعبقرية ما صنعه الفارسي لا تتمثل فقط في أهمية الأعمال الفنية ذات القيمة العالمية الفائقة فقط وإنما في توقيت تنفيذ ذلك المشروع الحضاري، حين جاء في السبعينيات حين لم يكن يلتفت للفن وبالأخص لإتاحته كمشهد يومي للأفراد من كل الطبقات وفي مختلف المرافق التي يرتادونها، أن يتحول الفن لمُعَاش يومي للفرد في طريقه للعمل وللنزهة.

ثم وفي أواخر التسعينيات فاجأت جمهور مدينة جدة لوحات للأطفال تم تكبيرها وطبعها على أسوار مجمع الحرس الوطني السكني بآخر شارع فلسطين في تقاطعه مع الخط السريع الذي يقود لمدينة مكة.

ظهور تلك اللوحات بفنها العفوي الطفولي شكَّلَ دفعة للذائقة الفنية وارتقاء بالنظرة للفن بصفته من مثريات المشهد اليومي، وبصفة الفن أداة للتعبير عن الذات وتسجيل تميزها. ولقد تم ذلك المشروع بالتعاون بين إدارة الحرس الوطني بمدينة جدة مع مركز تدريب معلمات رياض الأطفال والذي قامت إدارته بانتقاء مجموعة من لوحات الأطفال بالمركز.

والآن تشهد مدينة الرياض حراكاً فنياً شبيهاً وإنما على نطاق أوسع، حيث تفاجئك لوحات فنية منفذة من قبل أطفال منتشرة تغطي كيلومترات من أسوار مواقع العمل للمشروع الذي قيد الإنشاء لقطار الرياض الكهربائي والمعروف بمسمى مترو الرياض، والذي هو جزء من مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام بمدينة الرياض، المشروع الضخم الذي تبلغ كلفته 22.5 مليار دولار، ويتم بناؤه من قبل شركات البناء الرائدة في العالم بكتيل، فك، ستروكتون، ساليني امبريجيلو، لارسين وتوبرو وسامسونج ومن المقرر أن يبدأ تشغيله عام 2018.

ويلفت النظر ترافق ذلك المشروع التنموي الاقتصادي العملاق مع هذا المشروع الفني الحضاري الرائد، حيث حرصت الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض على أن تترافق النهضة المادية مع نهضة روحية إبداعية فقامت بطرح مسابقة لطلاب وطالبات المدارس من مختلف مراحل التعليم، يقومون برسم لوحات فنية يعبرون فيها عن تخيلاتهم لقطار الرياض. المشاركة كانت واسعة والنتاج غزيراً، وتم تكليف لجنة تحكيم من عدد من الفنانين التشكيليين والتربويين والأكاديميين تقوم بالإشراف على المساهمات وانتخاب الأعمال المتميزة لمنح أصحابها جوائز تشجيعية.

ولقد تم توجيه الضوء لتلك الرسوم التخيلية للقطار المقدمة بطرق مختلفة، إذ تم تكبير الجزء الأكبر من تلك اللوحات وعرضها في مواقع العمل في المشروع لتكون متاحة لكل عابر، بينما يستمر استغلال الجزء الآخر من تلك الأعمال الفنية وطبعه فيما تصدره الهيئة من مواد ومنشورات إعلامية حول المشروع. ويتوج ذلك في المعرض الذي تنظمه الهيئة لعرض الأعمال المتميزة المشاركة في القاعة التاسعة بالمتحف الوطني في مركز الملك عبدالعزيز التاريخي، ضمن الحملة التعريفية لمشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام بمدينة الرياض – القطار والحافلات.

مشروع متكامل بهذا الحجم العملاق يرسخ بلا شك مكانة الفن في المجتمع ويسهم في الاكتشاف المبكر للمواهب الفنية وتشجيع أصحابها حيث تحمل كل لوحة اسم صاحبها أو صاحبتها مما يدعم اعتزاز الفنان بفنه، وهو ما سيصب بالنهاية في إثراء حضارة هذا البلد.