نبيل عبد الفتاح

تعيش النخبة السياسية حالة من الاضطراب، وسوء الأداء، وسرعة إصدار التشريعات واللوائح والقرارات الإدارية وتراجع مستويات اللغة السياسية، وتردى لغة الخطاب السياسى والبرلمانى ... إلخ! ليت الأمر مقصورا على الدولة وسلطاتها وأجهزتها، وإنما من فضلك تأمل لغة من يطلقون على أنفسهم خبراء، وأكاديميين، وتكنوقراط، هل هذا خطاب يتسم باللغة الفنية والاصطلاحية الحاملة لتشخيصات وتحليل للأزمات والمشكلات والظواهر، وأسبابها، وتطوراتها، وكيف يمكن التعامل معها من خلال الحلول العلمية المتخصصة؟ أم أننا إزاء لغة عامية فجة أقرب إلى لغة العوام، وتفتقر للخبرة والتخصص والأفكار! من فضلك قارن بين بعض هؤلاء أو غالبهم ونظرائهم من بعض الأكاديميين والخبراء الاستراتيجيين والأكاديميين العرب، ولا أقول قارن بينهم وبين نظرائهم الأوروبيين والأمريكيين والهنود! هوة وفجوات شاسعة بين مستويات الخطاب الفنى والأكاديمى الغربى وبعض العربي، وبين ما نسمع عنه أو نقرأه فى بلادنا! خذ لغة خطاب بعض المتفلسفين لدينا، ستجد لغة تعميمات مجنحة، ومجازات فى غير محلها، واسترسال مفرط، وسيولة لفظية، وضعف فى الفكرة أو منظومة الأفكار إن وجدت، وترهل لغوي، وعدم انضباط اصطلاحي، والأخطر إعادة إنتاج لأفكار قديمة مشوشة، أو شروح على متون!. من فضلك قارن بين بعض الإنتاج المنسوب إلى الفلسفة والتفلسف لدينا، وقارن مع بعض الإنتاج الفلسفى المغاربى فى تونس والمغرب- ولا أقول لك قارن مع الإنتاج الفلسفى الغربى والأمريكي، على الرغم من تراجع بعض مستوياته! خذ الدراسات والبحوث السياسية والسوسيولوجية والنفسية، التى كانت تمثل فيما مضى أحد أبرز محاور التطور الفكرى والأكاديمى والبحثى المصرى مقارنة بالإنتاج البحثى فى المنطقة العربية وقارن بين ما كان منتجا فى المرحلة شبه الليبرالية، وفى ظل نظام يوليو حتى عقد التسعينيات من القرن الماضي، ولاحظ التدهور فى مستويات غالب البحوث النظرية والتطبيقية. . 

من فضلك قارن بين مستويات الأداء البيروقراطي والتكنقراطي في أجهزة الدولة في المرحلة شبه الليبرالية، وحتى أوائل حكم مبارك، وبين مستوياتها منذ عقد التسعينيات وحتى الآن، حيث تردى مستويات العقل البيروقراطي والتكنوقراطي، وأداءاته الكسولة والمترهلة، وتحوله إلى عبء على الدولة التي تريفت ومعها ثقافتها الحديثة المبتسرة التي تفككت بعض أواصرها وأوصالها! 

هل هذه الحالة العامة من نقص الكفاءة والخبرات، وضحالة الخيال البيروقراطي والسياسي يمكن أن تستمر؟ أم أنها ستقودنا إلى المزيد من تكالب الأزمات والعجز عن إيجاد حلول لها، وتؤدي إلى التفكك؟ هل نحاول استدعاء المواهب والخبرات والكفاءات لكي تؤدي دورها في البحث عن مخارج للمسألة المصرية أم سنستمر في إقصاء المواهب كنتاج لرهابُّ الموهبة والكفاءة الذي يمثل أحد أخطر أمراض النخبة المصرية في الحكم والمعارضة معًا 

إن استمرارية أوضاع التدهور المستمرة فى تكوين النخبة تتطلب ضرورة البحث فى الأسباب التى أدت بنا إلى هنا! إن نظرة على مناقشات أى قضية سياسية أو اقتصادية أو فنية تشير إلى ضعف شديد وهزال فى التكوين الفكرى والمهني، ووراءه عديد الأسباب وعلى رأسها ما يلي: 

تدهور النظام التعليمى وسياساته العام والفنى والجامعي، والديني، والاعتماد على إنتاج العقل التكرارى والنقلي، لا العقل النقدى والتركيبي. 

الانفصال بين الاتجاهات الجديدة فى التعليم بمراحله المختلفة فى الدول الأكثر تطورًا، وبين المناهج السائدة فى النظام التعليمى المصري، وغياب البعثات إلى الخارج للتدريب وإعادة التأهيل المهنى والوظيفى المتخصص، للمدرسين والمدرسات، وأساتذة الجامعات. من ناحية أخرى ضعف الاحتكاك العلمى مع مراكز التدريب فى أوروبا والولايات المتحدة والهند. 

تراجع البعثات العلمية إلى الجامعات الغربية، وتحول التعليم والتكوين وإعداد الأطروحات العلمية إلى تكوين محلى ضعيف لاسيما فى غالب الجامعات والمعاهد الإقليمية، وامتدت ظاهرة محلية التكوين العلمى إلى الجامعات الكبري. 

أدت التسلطية السياسية والتسلطية الدينية إلى فرض قيود باهظة على حريات الرأى والفكر والبحث الأكاديمي، والأخطر القيود الإدارية والأمنية على حرية الوصول إلى مصادر المعلومات التى تشكل المادة الأساسية للبحث الأكاديمى النظرى والتطبيقي، أو تطبيق الاستثمارات الاستبيانية والاستقصائية أو استطلاع اتجاهات الرأى العام، وهو ما أدى إلى فجوات معلوماتية وبحثية، ومن ثم ضعف البحوث حول التغيرات الاجتماعية فى عديد المجالات، التى أصبحت تبدو غامضة لعدم إجراء بحوث حولها. من ناحية أخرى برزت عديد الفجوات بين السياسات الاجتماعية والقوانين والقرارات السياسية، وبين الواقع الموضوعى ومحمولاته، ومن ثم ضعف عملية إنتاج السياسة وعدم فعاليتها وقدرتها على تغيير الواقع، أو إعادة بناء التوازنات بين القوى الاجتماعية ومصالحها المتصارعة. 

القيود على الحريات العامة والفكرية أدت إلى عودة »سياسة اللاسياسة«، أو »موت السياسة«، على نحو أثر سلبيا على ضعف الفكر السياسي، ومن ثم استمرارية ظاهرة قديمة وممتدة هى »اللاسياسة واللاسياسيين« فى ظل ضعف تكوين وخبرات غالب رجال السلطة السياسية، والأحزاب، وغيرهم، حيث لا سياسة بلا سياسيين، ولا سياسيين بلا سياسة، فى ظل قواعد للعبة السياسية، ومؤسسات للمشاركة وفاعلين فى حالة تنافس سلمى ومشروع على القيم والمصالح السياسية والاجتماعية. من هنا يبدو جليًا فقر الفكر السياسي، وضعف تكوين »السياسيين«، و«رجال الدولة«، فى ظل تآكل الرأسمال السياسى والخبراتى لثقافة »رجال الدولة« و«المعارضة« فى سياق ضمور وترييف ثقافة أجهزة الدولة على نحو ما يبدو من نمط التدين الريفى المحافظ والمتزمت لتكوين الأجهزة، والذى يتنافى مع ظواهر سياسية واجتماعية معقدة، تحتاج إلى عقل سياسى مفتوح على مجتمعه وإقليمه وعالمه، والأخطر على تجاربه وتغيراته من ثم لا سياسة بلا سياسيين، ولا سياسيين بلا سياسة، ولا رجال دولة حديثة، دون ثقافة دولة حداثية.