عامة الشعب الفلسطيني معتدلون تكتيكيون إنما مقاتلون استراتيجيون: فإلى أين يؤدي ذلك؟

ديفيد بولوك

ديفيد بولوك زميل أقدم في معهد واشنطن يركز على الحراك السياسي في بلدان الشرق الأوسط.

 استنادًا إلى النتائج المفاجئة التي توصّل إليها استطلاع جديد للرأي وشديد الموثوقية أجري بين 16 و26 أيار/مايو 2017 في الضفة الغربية وغزة، يتبين أن الفلسطينيين غالبًا ما يتسمون باعتدال أكبر من زعمائهم في ما يخص القضايا السياسية القصيرة المدى على غرار المكافأة التي تُدفع للإرهابيين عند ارتكابهم جرائم القتل، أو نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أو هجمات حركة "حماس" على إسرائيل. مع ذلك، لا يزال لدى الكثيرين طموحات متطرفة ضد إسرائيل على المدى البعيد، رافضين حقها في الوجود حتى. في هذا الإطار، يحلل هذا المقال هذا النمط من الرأي العام ويستعرض تفاصيل إضافية ومقارنات مع نتائج الاستطلاع السابق الذي أجري منذ عامين، ثم يدرج خلاصة موجزة للتوصيات الخاصة بالسياسات انطلاقًا من هذا التحليل.

تتمحور الأمثلة الأكثر إلفاتًا (والأكثر صلة بالسياسات) عن هذه الآراء الشعبية ذات الطابع التكتيكي والمعتدل نسبيًا حول مسألتين هما محط جدال محتدم، أولها مسألة الأموال التي تدفعها السلطة الفلسطينية للإرهابيين المُدانين، وثانيها مسألة نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس. في ما يتعلق بالمسألة الأولى، يُظهر الاستطلاع الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية القائم في بلدة بيت ساحور في الضفة الغربية، أن ثلثَي الفلسطينيين يعتبرون أنه "على السلطة الفلسطينية منح أسر السجناء المساعدات الاجتماعية المعتادة التي يتلقاها سائر المواطنين، وليس دفعات إضافية قائمة على أحكامهم الجزائية أو عملياتهم المسلحة". وما يزيد هذه النتيجة أهميةً هو أن الاستطلاع أجري خلال حملة لاقت تغطية إعلامية كبيرة قام خلالها مئات الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بالإضراب عن الطعام.

أما من ناحية المسألة الثانية، أي السفارة الأمريكية، فأقلية صغيرة فقط من الفلسطينيين وصفتها بـ"المسألة البالغة الأهمية"، بحيث وصلت نسبتهم في الضفة الغربية إلى 12 في المائة وفي غزة إلى 25 في المائة. وهنا أيضًا تزداد أهمية هذه النسب الصغيرة على ضوء ما أحاط مؤخرًا بهذه المسألة من دعاية واسعة وتصريحات عامة حذّرت ودقت ناقوس الخطر بلا داعٍ.

إلى ذلك، ثمة مسألة أخرى شديدة الأهمية يبدي حيالها الرأي العام الفلسطيني مرونةً أكبر من الموقف السياسي الحالي لزعمائهم، وهي مسألة الاعتراف بـ"الدولتين لشعبين: الشعب الفلسطيني والشعب اليهودي". لطالما واجهت السلطة الفلسطينية هذه الصيغة بالرفض، ولكن حوالي نصف سكان الضفة الغربية (45 في المائة منهم) مستعدون لقبولها "إذا كانت تسهم في إنهاء الاحتلال" – علمًا بأن هذه النسبة انخفضت عمّا كانت عليه في أيار/مايو 2015 حيث سجلت 56 في المائة ولكنها لا تزال تشكل حيّز تفاوت ملحوظ في الرأي العام. غير أن هذه النسب تدنّت بعض الشيء في غزة حيث أعربت نسبة 37 في المائة عن موافقتها على هذا التصريح الرمزي اليوم، ما عكس انخفاضًا بسيطًا عن نسبة 44 في المائة المسجلة منذ عامين.

ويكاد الوضع نفسه ينطبق على مسألة أكثر عمليةً هي مسألة "التطبيع" مع إسرائيل. موقف السلطة الفلسطينية من هذه المسألة مبهم، فهي تؤيد وجود تفاعل رسمي محدود إنما تؤيد أيضًا وبصفة شبه رسمية "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" وغيرها من الحركات المناهضة للتطبيع. أما الرأي العام الفلسطيني فيؤيد في المقابل وبوضوح أشكال مختلفة من التفاعل مع إسرائيل والإسرائيليين. إذ ترغب الأكثرية الكبرى في المزيد من الوظائف داخل إسرائيل، 63 في المائة منها من سكان الضفة الغربية، و70 في المائة من سكان غزة، في حين أن الأكثرية – ونسبتها 55 في المائة في الضفة الغربية و57 في المائة في غزة – تقول أيضًا إنه "على الفلسطينيين تشجيع العلاقات الشخصية المباشرة والحوار مع الإسرائيليين." وحوالي النصف تقريبًا يريد من الشركات الإسرائيلية توظيف المزيد من الفلسطينيين داخل الضفة الغربية وغزة.

وكذلك أبدت الأكثرية اعتدالاً مفاجئًا حيال مسألة تكتيكية ومؤاتية أخرى. فقد اعتبر 55 في المائة من سكان الضفة الغربية أنه على "حماس" الالتزام باتفاقيات وقف إطلاق النار مع إسرائيل، مع الإشارة إلى أن هذه النسبة ترتفع بشكل ملحوظ إلى 80 في المائة بين أهالي غزة الذين ذاقوا مؤخرًا لوعة هذه الحرب. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استقاء معلومات منوّرة إذا ما تمعّنا في اقتراح مختلف وقصير الأمد صدر عن إدارة الرئيس ترامب. فهذه الفكرة التي نالت هي أيضًا تأييد غالبية الرأي العام تدور حول "مقاربة إقليمية" لعملية صنع السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين حيث "تقوم الدول العربية بعرض المحفزات على كلا الجانبين لاتخاذ مواقف أكثر اعتدالاً" وفق ما جاء في سؤال الاستطلاع. فقد وافقت نسبة 58 في المائة في الضفة الغربية عليه فيما بلغت هذه النسبة 55 في المائة في غزة.

وفي ما يتعدى إطار هذا المفهوم العام، طرح الاستطلاع السؤال التالي أيضًا: "لنطرح افتراضًا أكثر تحديدًا بأن الدول العربية عرضت رفع المساعدات الاقتصادية لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية أو غزة إنما ليس داخل إسرائيل. هل تعتبر هذه الفكرة جيدة أو سيئة؟" فأجاب نصف المشاركين بأنها فكرة جيدة، 41 في المائة منهم في الضفة الغربية و51 في المائة في غزة. وهذا يتماشى تقريبًا مع نتائج سؤال آخر أكثر استفزازًا. فقد طرحنا السؤال الآتي: "بغض النظر عمّا هو صائب، يبقى الواقع أن معظم المستوطنين الإسرائيليين سيلازمون على الأرجح مكانهم ومعظم اللاجئين الفلسطينيين لن يعودوا إلى أراضي 1948." فوافقت غالبية المشاركين من الضفة الغربية على هذه النظرة التقييمية الحادة بنسبة 60 في المائة. وحتى في غزة حيث يتحدّر معظم المشاركين من اللاجئين ويتعرضون يوميًا لحملات "حماس" الدعائية عن "حقهم بالعودة"، كانت نسبة الموافقة قرابة النصف (46 في المائة).

مع ذلك، فهذه الآراء البراغماتية نسبيًا أو أقله المختلطة بشأن التكيتيكات والتوقعات لا تترجَم إلى قبول معياري بشرعية إسرائيل أو حتى ببقائها على المدى الطويل. فأقل من 10 في المائة من الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية أو غزة، يرون أن "اليهود لا يملكون أي حق بهذه الأرض". أضف إلى أن الاستطلاع تطرّق إلى منحى سياسي أكثر صراحةً حيث سأل عن خيارين مستقبليين مطروحين بعد التوصل بالتفاوض إلى حل الدولتين، وهما إما "انتهاء النزاع مع إسرائيل" أو "عدم انتهاء النزاع... إلى حين تحرير فلسطين بحدودها التاريخية كاملة". وقد اختارت أكثرية المشاركين من الضفة الغربية استمرار النزاع على السلام الدائم بهامش 55 في المائة مقابل 35 في المائة. لكن الملفت هو أن المشاركين من غزة فضّلوا الخيار الآخر بفارقٍ بسيط حيث حصل خيار السلام الدائم على تأييد نسبة 47 في المائة مقابل 44 في المائة لخيار استمرار النزاع.

فما سبب هذا التفاوت غير المتوقع؟ الجواب المعقول موجودٌ في البيانات المتوفرة عن التوجهات. فنتائج الضفة الغربية لم تتغير من الناحية الإحصائية عن نتائج أيار/مايو 2015 حين فضّل سكان غزة آنذاك أيضًا استمرار النزاع على السلام بهامش نقطتين مقابل نقطة. ولكن في خلال السنتين اللتين مرّتا مذّاك، ندم على الأرجح الكثير من أبناء غزة على الضرر المتواصل الذي نتج عن حرب 2014 الكارثية على أرضهم وغيّروا رأيهم نحو تفكير سلمي نسبيًا.

إلا أن المشاركين من الضفة الغربية وغزة كانوا كلهم على توافق – وليس بصيغة استرضائية – في ما خص سؤالاً آخر طويل المدى على علاقة بذلك الموضوع. إذ اعتبرت الأكثرية في كلتا المنطقتين أنه في النهاية "سوف يفرض الفلسطينيون سيطرتهم على كل فلسطين تقريبًا"، وقد اختار هؤلاء هذا الجواب إما لأن "الله إلى جانبهم" (40 في المائة) أو لأن "أعدادهم ستفوق أعداد اليهود" في نهاية المطاف (20 في المائة). والأمر الملفت في هذا الرابط أيضًا هو أن نسبةً مفاجئة تفوق الأربعين في المائة من المشاركين في الضفة الغربية وغزة تعارض الجزم القائل إن "إسرائيل لن توافق أبدًا على حل الدولة الواحدة الذي يضمن للفلسطينين المساواة في الحقوق حتى إذا أصبحوا يومًا ما الأكثرية الواضحة".

والمثير للاهتمام هو أن نسبة الفلسطينيين الذين يتكّلون على العناية الإلهية في هذا السياق السياسي المستشرف للمستقبل تعدّ أكبر بكثير من نسبة الذين يضعون الدين في طليعة أهدافهم المباشرة. فنسبة الرأي العام الفلسطيني التي اختارت خيار "أن أكون مسلمًا أو مسيحيًا صالحًا" كأولوية شخصية سجلّت رقمًا أحاديًا في المراتب الدنيا، حيث بلغت تسعة في المائة في الضفة الغربية وسبعة في المائة فقط في غزة، فيما تفوّق عليها بأشواط خيارا "الحياة العائلية الحسنة" و"الدخل الميسور" بهذا الترتيب وسجلّ خيار "بناء دولة فلسطينية" فارقًا أكبر بعد.

فكيف يجب على السياسات الأمريكية التعامل مع هذا الانقسام بين المواقف القصيرة والبعيدة المدى لدى الفلسطينيين؟ إنّ الجواب الخالص والمخادع ببساطته هو أيضًا جواب ذو أبعاد خاصة بالمدى القصير والمدى الأبعد، وهو يتمثل في الوقت الراهن بالاستفادة من الفسحة التي أعطاها الرأي العام لتشجيع المسؤولين الفلسطينيين على انتهاج ابتكار أكبر في المجال الدبلوماسي وتحفيز مقدار أكبر من التقدم العملي لدى الشعب الفلسطيني. وإذا نظرنا إلى أبعد من ذلك، يجب ألا ننسى أن السلام الدائم لا يصبح ممكنًا إلا إذا عمل أي "اتفاق نهائي" وبشكل مضمون على كبح مطامع ذلك الشعب المتواصلة باسترجاع الأرض على المدى الطويل ونزعته الوحدوية.

معهد واشنطن